عبت الكتاب، ولا أعلم جارا أبر، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع ... ولا صاحبا أظهر كفاية ... ولا أقل إملالا ... وغيبة ... وتصلفا وتكلفا ... من كتاب. ولا أعلم قرينا أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخف مئونة، ولا شجرة أطول عمرا ... وأطيب ثمرة ... من كتاب. الكتاب صامت ما أسكته (بتشديد التاء المفتوحة)، وبليغ ما استنطقته؛ ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك؟ ... ولا يحوجك إلى التجمل له؟ ... ومن لك بزائر إن شئت جعل زيارته غبا ... وإن شئت لزمك لزوم ظلك؟
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بنانك ... ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر.
والكتاب قد يفضل صاحبه ... فهو يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار.
فمناقلة اللسان وهدايته، لا تجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره، ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها ، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لولا ذلك كله لخس حظنا من الحكمة، ولضعف سبيلنا إلى المعرفة.
ذلك هو الكتاب، وذلك هو شأنه، لكني أكرر القول هنا بأنه لا بد للكتاب من قارئ، ثم لا بد لهذا القارئ من فن القراءة. نعم؛ فالقراءة فن يكتسب بالدربة والمران، ورب قارئ لم يخرج من كتاب قرأه إلا بعنوانه، وحسنا إن فعل. أما القراءة بمعناها الصحيح، فهي أن تكون حوارا صامتا بينك وبين ما تطالعه. صور لنفسك دائما أن الكتاب بين يديك هو إنسان يحدثك بما يرى، فلا بد أن تنصت وتحسن الإنصات، لا ابتغاء تكذيبه دائما، أو تصديقه دائما، بل ابتغاء حوار سقراطي بناء بينك وبينه؛ لعلكما معا تصلان إلى صواب يطمأن إليه، فكما يقول بيكون: اقرأ لا لتنقض وتدحض، ولا لتصدق وتسلم بلا جدل، ولا لتزود نفسك بموضوعات تظهر بها على أقرانك في نقاش، بل اقرأ لتزن الأمور بميزان عدل بغية الوصول إلى حق.
ويجمل بنا في هذا الموضع أن نضيف تحذيرا لم يفت بيكون أن يضيفه وهو بصدد حديثه عن قراءة الكتب، وهو أن في الناس رجلين؛ فرجل غمس نفسه في دنيا العمل غمسا حتى لا تبقى له بقية لكتاب، وآخر استنفد حياته في مطالعة الكتب حتى لا تبقى له منها لحظة يقضيها في عمل مفيد، وكلا الرجلين على ضلال؛ لأن القارئ الدارس لا مندوحة له عن وضع دراسته موضع التنفيذ ليحد من شطحها في عالم الأوهام، وكذلك العامل صاحب التنفيذ والإنجاز لا بد له من دراسة يقتات منها فكرا ينفع دنيا العمل؛ فلئن كانت القراءة الدارسة تهذب من فطرة الإنسان جانحة بها نحو الكمال، فلا شك أنها هي الأخرى تتهذب بالخبرة العملية فتعلو بها منزلة وتسمو. إن القراءة لذاتها قد تبهر السذج البسطاء، وهي موضع ازدراء وسخرية من رجال العمل، وإذن فلا خير فيها لهؤلاء وأولئك جميعا، وإنما يفيد منها الحكماء لأنهم يستخدمونها في ميادين الحياة العملية. ولنلحظ هنا أن القراءة - مجرد القراءة - لا تعلمنا كيف ننقلها إلى دنيا العمل والسلوك، وإنما يحتاج الأمر إلى وقفة الحكماء فنهتدي إلى سواء السبيل؛ ذلك أن قدراتنا وهي على فطرتها كالأعشاب وهي على فطرتها، كلاهما يحتاج إلى تشذيب وتهذيب؛ فالأعشاب يشذبها مقص البستاني، وقدراتنا تهذبها القراءة الواعية.
اقرأ، وناقش ما قرأته مع نفسك أو مع سواك، ثم اخرج بما قرأت إلى عالم الأشياء. بالقراءة يحسن تقويمك إنسانا، وبالنقاش تستيقظ لمواضع النقص ومواضع الكمال، ثم بالتطبيق تبلغ بالفكرة حدود الدقة واليقين.
8
ولا ندع الحديث عن الكتاب والحضارة دون أن نذكر مرحلة حضارية أخيرة من مراحل سيره، مرحلة هامة وخطيرة، الله أعلم بمداها الذي يمكن أن تبلغه في مقبل الأيام، وتلك هي مرحلة التسجيل الصوتي للكتاب؛ فقد بات مألوفا اليوم أن يسجل المؤلف كتابه على أشرطة، حتى ليجوز القول إننا ربما نكون مقبلين على إنشاء مكتبات بأسرها قوامها تسجيلات صوتية، وعندئذ ننتقل من شوط ثقافي كانت فيه كتابة وقراءة، فيد تكتب بالقلم، وعين ترى ما قد كتب لتقرأه، إلى شوط جديد يسوده شريط واستماع، فتحل الأذن محل العين، وبعد أن كنا نقرأ للكاتب بأصواتنا نحن، نترك الكاتب ليقرأ لنا بصوته، وهنا يتحول معنى الأمية، فلا يكون الأمي هو من لا يعرف القراءة والكتابة، بل هو من حيل بين سمعه وبين الشريط المدار.
لكنني أعتقد عقيدة راسخة بأنه إذا كان من النافع أن يضاف إلى الكتاب وسائل أخرى، فسوف يظل مدار الثقافة العليا الكتاب؛ فأولا: سيظل الكتاب وعاء للثقافة الموروثة التي لا ثقافة بغيرها. وثانيا: سيظل الكتاب مجالا وحيدا للعلوم المتقدمة التي تتحدث بلغة الرياضة ورموزها، ويكفي هذان العاملان فيصلا في الأمر حاسما.
Bog aan la aqoon