Fi Calam Ruya
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Noocyada
سمع يوحنا هذه الكلمات فاضطرب قلبه في صدره وكبرت نفسه وتعالت قامته عن ذي قبل، كأن الأرض قد نمت تحت أقدامه، فانتشل الإنجيل من جيبه كما يستل الجندي سيفه للمدافعة، وصرح قائلا: «هكذا تتلاعبون بتعاليم هذا الكتاب أيها المراءون، هكذا تستخدمون أقدس ما في الحياة لتعميم شرور الحياة. فويل لكم إذ يأتي «ابن البشر» ثانية ويخرب أديرتكم، ويلقي حجارتها في هذا الوادي، محرقا بالنار مذابحكم ورسومكم وتماثيلكم. ويل لكم من دماء يسوع الزكية ودموع أمه الطاهرة إذ تنقلب سيلا عليكم وتجرفكم إلى أعماق الهاوية. ويل وألف ويل لكم أيها الخاضعون لأصنام مطامعكم، الساترون بالأثواب السوداء اسوداد مكرهاتكم، المحركون بالصلاة شفاهكم وقلوبكم جامدة كالصخور، الراكعون بتذلل أمام المذابح ونفوسكم متمردة على الله. قدمتموني بخباثة إلى هذا المكان المملوء بآثامكم، وكمجرم قبضتم علي من أجل قليل من الزرع تستنبته الشمس لي ولكم على السواء، ولما استعطفتكم باسم يسوع واستحلفتكم بأيام حزنه وأوجاعه استهزأتم بي كأني لم أتكلم بغير الحماقة والجهالة . خذوا وابحثوا في هذا الكتاب وأروني متى لم يكن يسوع غفورا؟ اقرءوا هذه المأساة السماوية وأخبروني أين تكلم بغير الرحمة والرأفة؟ أفي موعظته على الجبل؟ أم في تعاليمه في الهيكل أمام مضطهدي تلك الزانية المسكينة؟ أم على الجلجلة عندما بسط ذراعيه على الصليب ليضم الجنس البشرى؟ انظروا يا قساة القلوب إلى هذه المدن والقرى الفقيرة، ففي منازلها يتلوى المرضى على أسرة الأوجاع، وفي حبوسها تفنى أيام البائسين، وأمام أبوابها يتضرع المتسولون، وعلى طرقها ينام الغرباء، وفي مقابرها تنوح الأرامل واليتامى، وأنتم ها هنا تتمتعون براحة التواني والكسل، وتتلذذون بثمار الحقول وخمور الكروم. فلم تزوروا مريضا، ولم تتفقدوا سجينا، ولم تطعموا جائعا، ولم تئووا غريبا، ولم تعزوا حزينا. وليتكم تكتفون بما لديكم وتقنعون بما اغتصبتم من جدودنا باحتيالكم، فأنتم تمدون أياديكم كما تمد الأفاعي رءوسها، وتقبضون بشدة على ما وفرته الأرملة من عمل يديها وما أبقاه الفلاح لأيام شيخوخته.»
وسكت يوحنا ريثما استرجع أنفاسه ثم رفع رأسه بفخر وقال بهدوء: «أنتم كثار ها هنا وأنا وحدي. افعلوا بى ما شئتم، فالذئاب تفترس النعجة في ظلمة الليل، لكن آثار دمائها تبقى على حصباء الوادي حتى يجيء الفجر وتطلع الشمس.»
كان يوحنا يتكلم وفي صوته قوة علوية توقف في أبدان الرهبان الحركة وتثير في نفوسهم الغيظ والحدة، ومثل غربان جائعة في أقفاص ضيقة كانوا يرتجفون غضبا وأسنانهم تصرف بشدة، مترقبين من رئيسهم إشارة ليمزقوه تمزيقا ويسحقوه سحقا، حتى إذا ما انتهى من كلامه وسكت سكوت العاصفة بعد تكسيرها الأغصان المتشامخة والأنصاب اليابسة، صرخ الرئيس بهم قائلا:
اقبضوا على هذا المجرم الشقي وانزعوا منه الكتاب وجروه إلى حجرة مظلمة من الدير، فمن يجدف على مختاري الله لا يغفر له ها هنا ولا في الأبدية. فهجم الرهبان على يوحنا هجوم الكواسر على الفريسة، وقادوه مكتوفا إلى حجرة ضيقة، وأقفلوا عليه بعد أن نهكوا جسده بخشونة أكفهم ورفس أرجلهم.
في تلك الغرفة المظلمة وقف يوحنا وقفة منتصر توفق العدو لأسره، ونظر من الكوة الصغيرة المطلة على الوادي المملوء بنور النهار، فتهلل وجهه وشعر بلذة روحية تعانق نفسه وطمأنينة مستعذبة تمتلك عواطفه، فالحجرة الضيقة لم تسجن غير جسده.
أما نفسه فكانت حرة تتماوج مع النسيم بين الطلول والمروج، وأيدي الرهبان التي آلمت أعضاءه لم تمس عواطفه المستأمنة بجوار يسوع الناصري. والمرء لا تعذبه الاضطهادات إذا كان عادلا، ولا تفنيه المظالم إذا كان بجانب الحق، فسقراط شرب السم مبتسما، وبولس رجم فارحا، ولكن هو الضمير الخفي نخالفه فيوجعنا، ونخونه فيقضي علينا.
وعلم والدا يوحنا بما جرى لوحيدهما، فجاءت أمه إلى الدير مستعينة بعصاها، وترامت على أقدام الرئيس تذرف الدموع وتقبل يديه ليرحم ابنها ويغتفر جهله. فقال لها بعد أن رفع عينيه نحو السماء كمترفع عن العالميات: «نحن نغتفر طيش ابنك ونسامح جنونه، ولكن للدير حقوقا مقدسة لا بد من استيفائها.»
نحن نسامح بتواضعنا زلات الناس، أما اليشاع العظيم فلا يسامح ولا يغفر لمن يتلفون كرومه ويرتعون زرعه.»
فنظرت إليه الوالدة والدمع ينسكب على وجنتيها المتجعدتين بأيدي الشيخوخة، ثم نزعت قلادة فضية في عنقها ووضعتها في يده قائلة: «ليس لدي غير هذه القلادة يا أبتاه، فهي عطية والدتي يوم اقتراني، فليقبلها الدير كفارة عن ذنوب وحيدي.»
فأخذ الرئيس القلادة ووضعها في جيبه، ثم قال ووالدة يوحنا تقبل يديه شكرا وامتنانا: ويل لهذا الجيل، فقد انعكست فيه آيات الكتاب، وأصبح الأبناء يأكلون الحصرم والآباء يدرسون. اذهبي أيتها المرأة الصالحة وصلي من أجل ابنك المجنون لتشفيه السماء وتعيد إليه صوابه.
Bog aan la aqoon