Fi Calam Ruya
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Noocyada
ثم انظر إلى ذلك البيت المنفرد بين البساتين، فهو مسكن شاعر خيالي سامي الأفكار روحي المذهب، له زوجة غليظة العقل خشنة الطباع، تسخر بأشعاره لأنها لا تفهمها، وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة. وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء وتسيل رقة، وتولد في قلبه النور بانعطافها، وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظرتها.»
وسكتت السيدة وردة هنيهة وقد جلست على مقعد بجانب النافذة، كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية، ثم عادت تقول بهدوء: «هذه هي القصور التي لم أرض أن أكون من سكانها. هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها. هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم وخلعت عني نير جامعتهم. هؤلاء المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد ويتنافرون بالروح، ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله.
أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم، ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوا إلى الرياء والكذب والخيانة. ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم لأنني لا أحب الاغتياب والنميمة، بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت في الأمس مثلهم فنجوت، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي، وخرجت عن سبيل خداعهم المظلمة، وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل.
وقد نفوني الآن من جامعتهم وأنا راضية؛ لأن البشر لا ينفون إلا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور، ومن لا يؤثر النفي على الاستعباد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب. أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية، وكان رشيد بك يقتات مني عندما يشعر بحاجة إلى الطعام، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين، ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام، وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم أقدر؛ لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف، أقامته الأجيال المظلمة ودعته الشريعة. فكسرت قيودي، لكنني لم ألقها عني حتى سمعت الحب مناديا ورأيت النفس متأهبة للمسير، فخرجت من منزل رشيد خروج الأسير من سجنه، تاركة خلفي الحلي والحلل والخدم والمركبات، وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح، وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب؛ لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد، حاجبة رأسي بساعدي، ساكبة حشاشتي من أجفاني، قائلة: هذا نصيبي من الحياة.
إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة متى يجيء الفجر، وعندما يجيء الفجر أقول: متى ينقضي هذا النهار. إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعيسا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل أن السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله.
هذه هي حكايتي أيها الرجل، وهذا احتجاجي أمام السماء والأرض، وأنا أردده وأترنم به، والناس يغلقون آذانهم ولا يسمعون لأنهم يخشون ثورة أرواحهم، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رءوسهم.
هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي، ولو جاء الموت واختطفني الآن لوقفت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل، بل بفرح وأمل، وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج؛ لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فضلها الله عن ذاته، ولم أتبع غير نداء القلب وصدى أغاني الملائكة.
هذه هي روايتي التي يحسبها سكان بيروت لعنة من فم الحياة، وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية، ولكنهم سوف يندمون عندما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة، مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات، فيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقي عليه السلام قائلا: «ها هنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة، لتحيا بناموس المحبة الشريفة، وحولت وجهها نحو الشمس كيلا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك».» •••
ولم تنته السيدة وردة من كلامها حتى فتح الباب ودخل علينا فتى نحيل القوام، جميل الوجه، تنسكب من عينيه أشعة سحرية وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إلي بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة، واسمه مشفوعا بنظرة معنوية، فعرفت بأنه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله.
ثم جلسنا جميعا صامتين لانشغال كل منا بمعرفة رأي الآخر فيه، حتى إذ مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر، فرأيت ما لم أره قط، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة، وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم.
Bog aan la aqoon