قلت: أما هذا يا صاحبي فلا، وإننا لعلى شرطنا الأول أن ندع المردة في قماقمها ولا نطلقها، ولكننا قادرون - وهي حبيسة - أن نقول في أمان: إن المنطق والحياة لا يفترقان! وإن الآفة فيمن لا يفهمون المنطق أنهم لا يحسونه، وفيمن لا يحسون الحياة أنهم لا يفهمونها، فما من شيء في هذه الحياة يناقض المنطق بحال، فإن فهمناه فهو مفسر بأسبابه ومقدماته، وإن لم نفهمه فليس لنا أن نناقض بينه وبين المنطق أو القياس.
قال: عجبا! أو كذلك؟ إننا لنرى كل يوم أمورا لا نفهمها، ولا يراها الناقدون لا تجري إلا على خلاف وجهها ونقيض استقامتها ، هذا الغني بخيل وذلك الفقير كريم، هذا الفتى المقبل على الحياة يقدم على الموت في شجاعة وخيلاء، وذلك الشيخ الذي شبع من الحياة يجبن ويخاف، هذا الذكي محروم وهذا الغني مجدود، فأي منطق في هذا وأي قياس؟
قلت: كل المنطق وكل القياس، إن الذكي لا يصنع مقاديره فيصيب فيها بذكائه، وإن الغني لا يصنع مقاديره فيخطئ فيها بغبائه، وإننا لنضع المنطق في غير موضعه حين نجعله حسبة أرقام وأعوام، فإن الفتى الذي يقدم على الموت لا يفعل ذلك؛ لأنه يحسب الأعوام التي عاشها والأعوام التي ينبغي أن يعيشها، ولا يقدم على الموت لأنه يريد أن يقدم عليه، ولكن الوضع الصحيح أن نضع دوافع الحياة التي تحفزه إلى المجد والغلبة والثناء، وتخجله من العار والمهانة والعقاب، ثم نضع أمامها دواعي الحرص والحذر والإشفاق، فإذا كانت تلك الدوافع أقوى من هذه الدواعي، فالمنطق الصحيح إذن أن يقدم على الموت، ولا يستسلم للحذر والمخافة، وإذا كان الشيخ على نقيض ذلك قد تغلبت فيه المخاوف على دوافع الشباب، فالمنطق الصحيح أن يتشبث بالحياة التي يرفضها ذلك الشاب وهو في مقتبل صباه، وما من غرابة إلا وهي مفهومة معقولة منطقية قياسية حين نضعها في وضعها الصحيح، وإنما نخطئ المنطق لأننا نخطئ الإحساس، فلا تصدق خصيان العقول والنفوس حين يزعمون أنهم من ذوي الإحساس لأنهم لا يفكرون ولا يقيسون، فإنما الإحساس القويم هو الفارق الوحيد بين المنطق القوي والمنطق الضعيف، وإنما الخطأ في المنطق خطأ في الإحساس بالأمور على حقائقها النفسية. أتعرف أولئك النظامين الذين يحفظون التفاعيل ليحسنوا وزن الشعر، فلا تستقيم لهم التفاعيل ولا تستقيم لهم الأوزان؟ لو أحسوا بآذانهم لصححوا التفاعيل، وصححوا الأوزان معها، وكذلك الذين صفرت نفوسهم، فلا يشعرون بالحياة على حقائقها يتهمون المنطق وهو براء، وهم الذين لا ينطقون ولا يحسون.
ترى هل يخطئ المخطئون فيحسبون الغني أولى بالسخاء والفقير أولى بالضنانة؛ لأنهم يحسون ولا يفكرون، أو لأنهم لا يحسون ولا يضعون شعورا أمام شعور، بل أرقاما أمام أرقام! ترى لو أحسوا ماذا يختلج في نفس الغني فيبخل، وماذا يختلج في نفس الفقير فيجود؟ أكانوا يخطئون في المنطق ويضلون عن سواء السبيل؟
إننا نتكلم في الغنى والفقر، فلنمض في القافية ولا ندع الكلمتين قبل أن نقول: إن فقر العقول لم يكن قط شهادة بغنى النفوس، وإن ثروة النفس لا تحرم صاحبها ثروة العقل بل تعينه عليها وتزيده منها، وهذا فيما أحسب فصل الخطاب في قضية الفقراء المنطقيين، الذين يثبتون غناهم في الحس والشعور بشهادة فقر في باب المنطق والتفكير.
وقبل أن يتقدم صاحبي إلى ركن الشعر والشعراء، وهو ربع المكتبة، بادرته بالشرط المعهود: لا تفتح القماقم ولا تتجاوز العناوين!
قال: نعم، الشرط فيما أرى، فما نحن بخارجين من هذه الحجرة لو أطلقنا ماردا واحدا هنا، وانطلق وراءه إخوانه المتحفزون، ولا أخفي عليك أنني لست على مذهبك في الحفاوة بالشعر؛ لأنه فضول شبعنا منه نحن الشرقيين، وطال اشتياقنا إلى تعويد أبنائنا ملكة العمل بعد ملكة الكلام!
قلت: لك رأيك في الحفاوة بالشعر والشعراء، أما الحقيقة فهي أننا كنا عاملين عندما كنا قائلين، وأنه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول، فلا تناقض بين القدرة على العمل والقدرة على القول، وما يستطيع إنسان أن يعمل حسنا، أو يقول حسنا إلا بوعي صحيح، والوعي الصحيح قسط مشترك بين ملكة العمل وملكة الشعر، ولولا أن الشعراء يحتاجون إلى صناعة التعبير، ويفرغون لإتقانها لما منعهم الشعر أن يكونوا أقدر العاملين.
أتحسب العرب كانوا متخلفين في ميادين الأعمال لأنهم كانوا سباقين في ميادين القصيد زمنا من الأزمان؟ أرأيت اليونان قد نبغ فيهم القادة والساسة والمدبرون إلا حين نبغ فيهم الشعراء والمنشدون؟ أتعلم أمة من أمم الأرض في العصور الحديثة أطبع على مراس الواقع والعناية بالفكر العملي، والخلائق العملية من أمة الإنجليز؟ فهل رأيت أمة من جيرانهم ومنافسيهم سبقتهم في مضمار الشعر، وأنجبت نصف ما أنجبوه من عباقرة الشعراء؟
زعمونا - أو زعمنا لأنفسنا نحن الشرقيين - أننا خياليون، وأننا لو أصبحنا واقعيين لنفضنا عنا غبار الخمول. والحق الذي لا مرية فيه عندي أننا واقعيون فاشلون في الواقعيات، فليست قصور ألف ليلة وليلة ولا حسانها وجواهرها وموائد طعامها وشرابها خيالا يحتاج إلى ملكة من ملكات التصور والإدراك، ولكنها كلها واقع ناقص أو واقع موقوف التنفيذ، فإذا حصل التنفيذ حصل الواقع الذي يلمس ويرى ويشم ويذاق، واليوم الذي نتخيل فيه فنحسن التخيل هو اليوم الذي ننفض فيه غبار الخمول؛ لأننا نحسن الوعي بهذا التخيل، ونطبع الصورة الصادقة في بدائهنا من صور الوجود، ولن تنطبع في النفس صورة صادقة لما حولها، وهي راكدة قاعدة أو عازفة عن الحركة والسعي والاستجابة لتحول الأحوال.
Bog aan la aqoon