Fi Awqat Firagh
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Noocyada
هذه قصة تاييس ، وهي تبدو لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك؛ فكيف ينقلب الناسك القديس كافرا والراقصة البغي تقية بتولا؟!
والحق أن الخرافة القديمة التي بعثها أناتول فرانس في هذه القصة لم تشر إلى شيء من صبا بفنوس وميله لتاييس، ولم تنته بفنوس إلى الإلحاد وإلى حب تاييس، وإنما ذكرت أن تاييس كانت فتنة الإسكندرية حتى بلغ من غيرة محبيها أن كانوا يقتتلون عند بابها، فكان هذا الباب ملطخا أبدا بالدماء. وذهب بفنوس عندها، فلما دعته إليها طلب غرفة بعيدة عن الأنظار، وكانت كلما دخلت به إلى غرفة كرر طلبه، فلما كانت آخر الغرف قالت له: إن كنت تريد البعد عن الناس فهذه غرفة لا يسمع أحد لك فيها ركزا؛ لكنك غير ناج من عين الله وإن حاولت. فلما علم أنها تؤمن بالله وباليوم الآخر وتخاف عقاب الله وترجو ثوابه دعاها للنسك، فقبلت بعد شيء من التردد، وظلت ثلاث سنين رهن محبس ضيق تعذب جسمها لتطهر روحها، فلما انتهت تلك السنون باركها بفنوس وأصبحت قديسة يقام لها عيد في ثامن أكتوبر من كل سنة، وظل بفنوس في الصحراء يفوح منه شذا القداسة، ويجتمع حوله المؤمنون.
لكن أناتول فرانس لم يرض أن يصدق هذه الرواية؛ فقد ذكر تاريخ القديس بفنوس أنه وقف بمجمع تير سنة 335 لميلاد السيد المسيح في وجه القائلين بضرورة انفصال الراهب عن زوجه لما في ذلك من مقاومة الطبيعة ومخالفة ما يفرضه الزواج لكل من الزوجين. فبفنوس إذن كان يؤمن بأن للطبيعة سلطانا لا يقاوم. وهل سلطان أقوى من سلطان الزهرة؟! ولما كان لكل خرافة في التاريخ أساس، فلا بد أن يكون للخرافة التي اتشحت باسمي تاييس وبفنوس أصل هو الذي صوره لنا أناتول فرانس.
ولم لا تنقلب البغي قديسة بتولا؟ ألم تسكب المجدلية دمع التوبة عند أقدام السيد المسيح فطهرت من الرجس، وصار مقامها في السماء بين المقربين؟ وإذا كان للبغي أن تنقلب بتولا فللقديس أن ينقلب ملحدا؛ وكما فتح الحب للمجدلية باب التوبة فقد فتح لبفنوس باب الخطيئة؛ ولو أن بفنوس أخطأ قبل أن يحب لصهره الحب وطهره كما صهر تاييس وطهرها، لكنه طهر قبل أن يحب فاستحال حبه خطيئة كما تحيل النار الماس فحما. ذلك سلطان الطبيعة وتلك سنتها، لن ينجو منه أحد ولو كان راهبا.
ليست تاييس إذن لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، وإنما هي صورة صادقة من صور الحياة، وهي أكثر صدقا أن تمت بالإسكندرية في القرن الرابع المسيحي حين كانت مدرسة الإسكندرية زاهرة، وكانت آراء الفلسفة من زهد أو إباحة تشتبك مع طقوس الدين وألوان الإيمان اشتباكا رفيقا لا عنف فيه ولا جفاء، وكانت أبيقورية الترف واللذة الفاشية في المدينة لا يؤذيها انتشار المتقشفة والرواقيين في الصحراء. فلا عجب وهذه هي الحال أن جذب جمال الإيمان بغيا، أو استغوت نعمة المدن ناسكا.
لكن أناتول فرانس لم يكفه أن لا تكون قصته عجبا، فجعل بغيه التي نسكت متدينة بدء حياتها، وجعل ناسكه الذي بغى مترفا بدء حياته، ثم نقل الشباب كلا منهما إلى نقيض نشأته. فلما آن للحياة أن تنحدر إلى منبت الطفولة عاد كل منهما إلى عهده الأول؛ فبغى الناسك، ونسكت البغي.
وقصة تاييس هي قصة هذا الانتقال الأخير. وقد وصف أناتول فرانس في هذه القصة حياة ذلك العصر أدق الوصف، فرسم الصحراء ومن فيها من المعتزلة، وما فيها من أكواخهم المنشورة على الرمال، وما يعالجونه من طقوس العبادة وأنواع التقشف، ورسم بذلك صورة المؤمنين بالدين أول نشأته: يغلون فيه إلى غير حد، ويقومون بفرائضه على صورة لم يتوهمها صاحب الدين يوم أعلنه للناس. ورسم الإسكندرية وما فيها من ترف وما تصبو إليه نفوس أهلها من لذائذ، وما يدور في مجالس فلاسفتها من حديث. لكنه فيما صور من ذلك كله كان أناتول فرانس في أسلوبه وفي تفكيره، وفي ابتسامته وفي سخره وفي إشفاقه، فلست تنسى لحظة وأنت تقرأ القصة أنك تقرأ أناتول فرانس؛ ذلك بأن الكاتب خيل هذا العالم القديم أمامه بما شاء بحثه وعلمه، ثم نظمه كما يريد، ونقشته ريشته بعد أن تم نظامه، فبرزت تاييس للقارئ صورة من نفس فرانس ومن العالم القديم مطبوعا فيها. •••
ولعل أقل صور أشخاص القصة وضوحا صورة تاييس، فأنت لا تستطيع أن تعرف عنها أكثر من أنها راقصة بارعة الجمال، فتنت الإسكندرية، فلما خافت تجاعيد الزمن ودعاها بفنوس إلى الهدى لبت دعوته، لكنك لن تجد في القصة كلها شيئا يميز تاييس عن كل راقصة جميلة. فمن أي نوع كان جمالها؟ وأي نفس كانت تختفي تحت هذا الجمال؟ وما ميول هذه النفس وما طبيعتها؟ وما عسى أن تكون الخواطر المبهمة التي تمر بها؟ ذلك شيء لا يحدثك فرانس عنه، وذلك ضعف تجده في كل تآليفه؛ فبطلاته الجميلات نسوة لا ذاتية لهن. ولعل سبب هذا الضعف أن نفس فرانس كانت أقوى من أن تتمثل نفس امرأة كملت فيها حياة المرأة. وهذه «تريز» بطلة الزنبقة الحمراء، وهي مثال المرأة في نظر الكاتب الكبير، لا تزيد صورتها على صورة تاييس وضوحا. أو لعل سبب الضعف ما يسبغه فرانس على هاتيك البطلات من ثوب حكمته، وما يجريه بين شفاههن من حديث لا عهد لامرأة به من عهد حواء! ... أم إن تشابه صور النساء في كتب فرانس لم يكن ضعفا، وإنما كان مرجعه عقيدة فرانس في المرأة؛ فهو لم يكن يراها خاضعة لحكم العقل ولما يدعو إليه من تردد واضطراب يؤدي إلى اختلاف نفوس الرجال في الصور والألوان والمشارب، بل كان يراها تسير في الحياة متأثرة بهدي الفطرة وشهواتها السليمة غير خاضعة لتمويه الفكرة البديع الألوان. وهو لذلك لم يكن يرى موضعا للتفرقة بين صور نفوس نسائه، فهن عنده سواسية في السمو فوق مدارك الفكر، وفي الانحدار مع ميل الهوى. وتاييس الراقصة، وتريز زوج الوزير، وألودي أخت المصور، وكاترين بائعة الدنتلا، وملاني خادمة البيت، جميعا سواء؛ يختلفن في المظهر، لكنهن يلتقين عند دوافع شهوات الفطرة. ولم تقصر ريشة فرانس في رسم اختلاف المظهر وتباين الميول الاجتماعية رسما صادقا دقيقا. فأما وصفه لنفس أية من نسوة كتبه فيصدق عليهن جميعا؛ فكل امرأة تهوى في الرجال محبتهم إياها وإعجابهم بها، وتحرص من حياتها على ما يجلب هذا الإعجاب وتلك المحبة، وتعجب من الرجل الذي يحبها وتقسو في محبته قسوة الشحيح على ماله.
وهل بين النسوة امرأة مهما تبلغ من الطهر، ومهما تكن زوجا وأما، تتوهم ذبول جمالها في غير الصورة التي رسمها أناتول فرانس لتاييس وقد عادت يوما من المسرح إلى منزلها الغني المترف، فجلست في «كهف العذارى» تبتغي الراحة من عناء رقص بالغت في إتقانه، فأحيت به ما مر بخاطر كل مصور وكل رسام وكل شاعر من بديع الخيال، «ثم استشفت في مرآتها نذر انحدار جمالها، وفكرت في فزع أن اقترب حين الشعر الأبيض وتجاعيد الوجه، وعبثا حاولت تسكين روعها بما حدثت به نفسها من أن إحراق بعض الأعشاب والنطق ببعض تعاويذ السحر يكفيان لإعادة نضارة اللون، فإن صوتا لا أثر للرحمة فيه صاح بها: «إن الهرم مدركك يا تاييس لا محالة.» وأثلج جبينها عرق الفزع، لكنها عادت فنظرت إلى نفسها في المرآة نظرة كلها العطف، فألفت نفسها لا تزال جميلة بأن تحب. فابتسمت لصورتها وتمتمت: ليس في الإسكندرية امرأة تستطيع أن تنافسني في ميس القد وخفة الحركات وبهاء الأذرع؛ والأذرع أي مرآتي هي سلاسل الحب حقا.»
قد تختلف عبارة كل امرأة حين تعرب عن هذا الإحساس، لكنه يمر بنفوسهن جميعا على هذه الصورة يختلط فيه الخوف بالرجاء والضعف بالقوة، وتتأثر فيه أعصابهن وعواطفهن بأثر واحد. ذلك ما يؤمن به فرانس؛ ولذلك لا يكون تشابه نسائه ضعفا، بل يكون كمالا لصدقه في تصوير الطبيعة النسوية. •••
Bog aan la aqoon