ومن هنا ننظر في هذا القول، مقدرين أن الإسلام - وهو دولة ذات هدف، وفتح ذو رسالة - قد خلف في حياة من جاءهم آثارا أبقى من غيرها وأعمق، فكانت في حياتهم أطول عمرا، وفي كيانهم أرسخ مدى، وذلك إذ جاءهم على فترة من الإصلاح وظلم من الحكام، وحاجة إلى الحق، وظمأ إلى العدل، وهيأ لهم من ذلك ما خفف لأواءهم، وأراح أفئدتهم ... كل ذلك قد كان، أو بعضه الذي كان. فهو سبب بين، ووجه جلي لما ظفر به هذا الأثر الإسلامي من رسوخ وخلود، دون أن يكون ذلك لونا من الأعاجيب، أو ضربا من الخوارق، أو عملا شاذا في حساب الحياة وسيرها.
وإذا كان هذا هو ما بين به القائلون دعواهم عن تغلغل الدم العربي في هذه الأقطار وتعريب أهلها، فقد تم هذا التعريب أو ما تحقق منه، كما تمت الخطوات الأخرى في غير إغراب ولا إدهاش ولا مفاجأة للباحث الاجتماعي الذي يؤمن بسنة الله، ولن يجد لسنة الله تبديلا.
لقد اتصل العرب بأهل تلك البلاد، فأخذوا وأعطوا، وخالطوا واختلطوا، وصاهروا ونسلوا، فكانت الشعوبية التي فتكت بالعصبية العربية، وأباحت حمى هذا الدم العربي الممنع، وكان من ورائها ما أصاب دم العرب، وشخصية العرب، ودولة العرب.
وإذا كان هذا هو نصيب المعتزين بدمهم الحريصين على نقائه، فكيف يدعى أن هؤلاء القوم قد أصاروا الناس إليهم وأفنوهم فيهم، مع أن قضية الحياة الواقعة أنهم هم فنوا، وهم تبددوا في الناس؛ ففقدوا فيهم شخصيتهم، وفقدوا بذلك ما فقدوا من سلطانهم. •••
ولا أطيل في هذا، بل أريح هؤلاء القائلين، فأقرر معهم أن ما كان من العرب لم يكن انسياحا في البلاد ليعربوا أهلها، بل كان انتقالا للعرب بقضهم وقضيضهم؛ فهاجرت قبائلهم يعمرون البلاد بعدما يزيحون عنها أهلها أو يبيدونهم منها. ليكن ذلك الذي كان، فقد صار الشعب العربي خارج جزيرته - إن كانت له منها بيئة موحدة في بعض الرأي - صار شعبا تنوعت به البيئات، وتعددت الأصقاع، وتفاوتت المنازل، ومثل هذا حين يتم للشعب الواحد، يظهر أثره في كيانه العقلي، ووجوده، وشعوره الفني، وشخصيته الحيوية في جملتها. وها هم أولاء البريطانيون قد استعمروا أمريكا على نحو من هذه الهجرة المنتقلة، التي أبادت الهنود الحمر - أو كادت - وحلت محلهم، فكان دم واحد، وكان لسان واحد، وكان أصل واحد بكل معاني الوحدة. فهل منع هذا ناموس الحياة من أن يحدث أثره، فيجعل من البريطانيين في بيئتهم الجديدة أمريكيين، لهم شخصيتهم، ولهم مقوماتهم، ولهم فنهم، ولهم أدبهم الخاص؟
وإذا ما مثلت لك بما مضى من حياة هؤلاء البريطانيين في أمريكا، فإنك لا تزال تظفر فيه بأمثلة جديدة؛ خذ منها مثلا هذا الشعب السوري المهاجر، وهو عربي من أولئك الذين نتحدث عن انسياحهم وانتقالهم، فقد هاجر السوري إلى أمريكا؛ جنوبية وشمالية.
وهاجر كذلك إلى أنحاء الشرق المختلفة؛ مصر، والعراق، والأفغان، وغيرها، ثم بقي منه من بقي في بلاده. وصح في واقع الحياة أن تكلموا جميعا العربية، وهيأ لهم الزمن أن اشتغلوا بأدبها، في أزمنة واحدة أو متقاربة جد التقارب. فهل سوغ هذا كله لقائل أن يقول إن أدب السوريين في مصر، هو أدبهم في مهاجرهم الشرقية، وهو بعينه أدبهم في مهاجرهم الغربية، وأن ما بأمريكا الشمالية منه إنما هو عين ما في أمريكا الجنوبية؟! هل استعملوا لغة فنية واحدة؟! هل صاغوا أساليب واحدة؟! هل طرقوا موضوعات واحدة؟! هل تناولوها تناولا واحدا؟ هل تنتظم حياتهم الأدبية أدوارا موحدة، إذ كان يجمعها زمان واحد؟! كتلك الأدوار التي يدرس الأدب العربي في أقاليمه المختلفة محبوسا في داخلها، متى اتحد عصره، ويكفي لوحدته أنه في قرن كذا أو على عهد كذا، وتحت حكم سياسي واحد، هو الأموي أو العباسي أو التركي بعد سقوط بغداد ... إلخ؟!
لا شك أن هذا وجه من الرأي لا يطمئن إليه أحد. وهل مطران والحداد، وشدودي، ومن إليهم في مصر، تنتظمهم وحدة فنية مع جبران وأبي ماضي وإخوانهم في أمريكا، ثم مع الخوري والمعلوف واليازجي وأضرابهم في سوريا، وإن اتحد بهم العصر أو تقارب؟! لا شك أن لا، ثم لا؛ فلا أصل يصح لهذا القول بانسياح العرب في البلاد الإسلامية المتباعدة، حتى عربوها جميعا ووحدوها جميعا في هذه العروبة! •••
وفيما ألممنا به من حديث العروبة والإسلام، والعروبة والشرق، ما يحتاج إلى مزيد بيان يحوجنا إلى أن نمس آراء وفكرا، ليست بسبيل ما نحن بصدده من حديث الدراسة والمنهج، وإنما هي مسائل عملية، مما يعنى به الحزبيون ويقف عنده المتحدثون في الحكم وتدبيره، يعلنون خشيتهم من هذه الإقليمية في الأدب والدرس، أن تغري بالإقليمية في العواطف والميول؛ فتنفصم بذلك عروة ما يستمسكون به من الوحدة الشرقية ورابطتها، أو الوحدة العربية وصلتها، ومع أن مثل هذه الوحدات مما لم يخلقه مؤثر حقيقي، ولم تكن في أغلب الأمر استجابة لفكرة ممحضة، أو رأي مختمر. فإنا بغير حاجة إلى التنقيب عن أصول هذه النوازع وأسباب رواجها، وإنا - في الوقت نفسه - لنحتفظ لأصحابها بعواطفهم نحوها، وبمصالحهم فيها، أن كانت استجابة لحاجة عملية، أو خطة في النضال بين الشرق والغرب، أو ما إلى هذا . نحتفظ لهم بذلك كله؛ لنطمئنهم جميعا إلى أن هذه الإقليمية الأدبية ليست إلا ضربا مما يعمد إليه البحث العلمي، من حل المركب إلى بسائطه ليبحثها شيئا فشيئا، توصلا بذلك إلى معرفة المركب معرفة دقيقة تامة. فإن كانت وحداتهم التي يدعونها من التماسك بما يصورونها به، وكما يريدون لها، فلا جناح عليها من هذه الإقليمية، ولا خطر عليها منها إن شاء الله؛ لأنا لا نهتف بالإقليمية استجابة لرغبة أو هوى، أو ميل أو غرض، حتى يعارض هذا شيئا من آمالهم أو يناوئه - إنما ندعو للإقليمية - باسم المنهج التحقيقي الدقيق، في تصحيح البحث وتوجيهه وتوزيعه. فلا اتصال مطلقا بين مصرية الأدب، وفرعونية مصر، بحيث نهدر فيها الجانب العربي، أو ننكر الميراث العربي، أو نهون من شأن هذا الدور العربي في حياة مصر. كلا! لن يحركنا شيء من هذا، ولن نثير به أي قدر من النزاع حول أمثال هذه الدعاوات. وكيف ونحن إنما ندرس هذه المصرية الأدبية في صورتها العربية، ودورها الإسلامي، أيام إذ عرفت ذلك كله، وانحازت إليه، وشاركت فيه، وعملت من أجله؟ فليطمئن بال أولئك السياسيين أو العمليين من هذه الناحية، وما يمت إليها بصلة، فليس شيء منها يعنينا أن نثبته أو ننفيه، ولو فرض أن شيئا من ذلك مما نعنى به أو نعرض له؛ فإنا سنقدر قبل كل شيء أن هذه الوحدة المركبة على ما يتمثلونها، لن يضيرها أن يشعر كل جزء من أجزائها، وكل جانب من جوانبها، بوجوده وذاته، وشخصيته، فيكون بذلك جزءا وعنصرا نافعا مجديا على الوحدة التي يدخلها، والاتحاد الذي يشاطر في تأليفه وتقويته. ونحن في كل حال نقدر في يقظة واهتمام، أن هذه العصور التي ندرسها عربية السنخ، عربية الجذر، إسلامية العرق، ما ننكر شيئا من ذلك ولا نشاح فيه أحدا؛ فمصر المدروسة لنا في هذا الأدب المصري، إنما هي مصر الإسلامية العربية، في العصر الذي امتدت فيه للإسلام دولة، وقام العرب بنصيب من دفع الإنسانية إلى الحياة، وتوجيهها للنهوض. وكذلك تؤرخ البلاد الأخرى هذا التاريخ الأدبي الإقليمي لهذا الدور، تفعل ذلك الشام العربية الإسلامية، والعراق الذي هو كذلك، والمغرب الذي له هذا اللون. ومن هنا تكون العربية الأولى منبعا وأصلا لهذه الآداب الإقليمية، في كل صورة من صورها، وتكون اللغة العربية الأولى، والأدب العربي الأول في الجزيرة، هي الأصل الجامع الذي انشعبت عنه هذه الآداب، فهو يقوم منها مقام النواة والجرثومة. وإن أبيت إلا أن تلتمس لذلك نظيرا في لغات الدنيا، فاعتبر هذه اللغات الإقليمية وأدبها، ذات شبه قريب أو بعيد، بفروع اللاتينية مثلا من لغات أهل أوروبا، أو بفروع الجرمانية من لغات هذه الأمم؛ فتلك وحدة أصل لا سبيل إلى نكرانها. ولا نحن نهون من قيمتها في ربط ما بين هذه الفروع وتوحيدها إن قصدت السياسة ذلك، أو اقتضته الحياة العامة.
ويوم تتداعى تلك الأمم بالعروبة، فلن تنكر مصر المصرية الشاعرة بشخصيتها، المؤمنة بكيانها المتحيز، ووجودها المتمثل؛ لن تنكر ما فيها من تلك العروبة، بل ربما تجد في بحثها عن عناصر هذه الشخصية المصرية، أن الدم المصري مثلا قد تخلطه، فتجمعه بالعرب قرابة قوية، وصلة وثيقة، كما أنها ربما تجد من هذا البحث أواصر أخرى للتواصل وراء الدم والنسب، مما يجمع بين الأمم معنويا وروحيا، ويقرب صلاتها ونواحي نشاطها. ومثل هذا سنعرض له كله فيما بعد عرضا غير متعجل ولا موجز.
Bog aan la aqoon