Fi Adab Masar Fatimi
في أدب مصر الفاطمية
Noocyada
مقدمة الطبعة الأولي
الكتاب الأول: في الحياة العقلية
الباب الأول: في الدعوة الفاطمية
1 - عقائد الفاطميين
2 - مراتب الدعوة الفاطمية ومراكزها
3 - مجالس الحكمة التأويلية
4 - أشهر علماء الدعوة الفاطمية
الباب الثاني: في الحياة العلمية
1 - العلوم الفلسفية
2 - علوم اللغة العربية والفقه
Bog aan la aqoon
3 - التاريخ والسير
الكتاب الثاني: في الحياة الأدبية
الباب الأول: في الشعر
1 - ازدهار الشعر
2 - الشعر والأئمة
3 - الشعر والوزراء
4 - الشعر والحرب الصليبية
5 - في الغزل
6 - أغراض أخرى في الشعر
خاتمة القول في الشعر
Bog aan la aqoon
الباب الثاني: في النثر
1 - ازدهار النثر
2 - كتاب ديوان الإنشاء
خاتمة
المصادر والمراجع
المصادر والمراجع الإفرنجية
مقدمة الطبعة الأولي
الكتاب الأول: في الحياة العقلية
الباب الأول: في الدعوة الفاطمية
1 - عقائد الفاطميين
Bog aan la aqoon
2 - مراتب الدعوة الفاطمية ومراكزها
3 - مجالس الحكمة التأويلية
4 - أشهر علماء الدعوة الفاطمية
الباب الثاني: في الحياة العلمية
1 - العلوم الفلسفية
2 - علوم اللغة العربية والفقه
3 - التاريخ والسير
الكتاب الثاني: في الحياة الأدبية
الباب الأول: في الشعر
1 - ازدهار الشعر
Bog aan la aqoon
2 - الشعر والأئمة
3 - الشعر والوزراء
4 - الشعر والحرب الصليبية
5 - في الغزل
6 - أغراض أخرى في الشعر
خاتمة القول في الشعر
الباب الثاني: في النثر
1 - ازدهار النثر
2 - كتاب ديوان الإنشاء
خاتمة
Bog aan la aqoon
المصادر والمراجع
المصادر والمراجع الإفرنجية
في أدب مصر الفاطمية
في أدب مصر الفاطمية
تأليف
محمد كامل حسين
مقدمة الطبعة الأولي
هذا الكتاب «في أدب مصر الفاطمية»، حلقة جديدة من سلسلة: «أدب مصر الإسلامية»، وكان من حقه أن يكون بين يدي الجمهور منذ خمسة عشر عاما، ولكننا لم نشأ أن نخرجه للناس قبل أن نعطيهم صورة صحيحة لتلك النزعة الدينية التي تمايز بها عصر الفاطميين عن غيره من عصور مصر؛ فقد خضعت مصر لهذا المذهب الديني، واتخذها أئمة هذا المذهب قاعدة ملكهم، فأصبح هذا المذهب هو المحور الذي تدور عليه الحياة المصرية من اجتماعية وسياسية وفكرية وأدبية، بحيث لا نستطيع أن نعرف حقيقة هذه الألوان المختلفة من الحياة المصرية في عصر الفاطميين إلا على ضوء عقائد هذه الفرقة من فرق المسلمين.
أدركنا هذه الحقيقة، وقرأنا الكتب التي تحدثت عن الفاطميين وعقائدهم، فرأينا هذه الكتب تعطينا صورا متناقضة أشد التناقض عن عقائد الفاطميين بحيث لا يستطيع أن يطمئن إليها باحث؛ ففي الوقت الذي نرى فيه هذه الكتب تذهب إلى أن الفاطميين أقاموا دولتهم على أساس ديني إسلامي، وأن الخلفاء الفاطميين اتخذوا سندهم من نسبتهم إلى الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم ، وأن الفاطميين احتفلوا بالأعياد الدينية الإسلامية احتفالا لم يعهد من قبل، وأنهم أسسوا المساجد لإقامة الصلوات، وكانوا يخرجون لإمامة الناس والخطبة في الأعياد، إلى غير ذلك من المظاهر التي تشعر بأن الفاطميين كانوا من أشد الناس حرصا على الإسلام وتقاليد المسلمين، في الوقت نفسه نرى هذه الكتب أيضا تذهب إلى أن الفاطميين كانوا يقولون بالإباحة وتحليل ما حرمه الله تعالى، ونبذوا الصلاة والصوم والحج، بل عملوا على طرح الأديان، ودانوا بالتناسخ والحلول والتلاشي، وادعوا معرفة الغيب ... إلى غير ذلك. قرأنا ذلك كله، وعجبنا أشد العجب لهذا التناقض الذي وقع فيه القدماء والمحدثون، فحرصنا على أن نرجع إلى كتب دعوة الفاطميين، وراعنا أن القاهرة التي أنشأها الفاطميون وكانت قاعدة ملكهم الواسع، لا تحتفظ بكتاب واحد من كتب الدعوة، فسعينا إلى البحث في غير مصر، وكان السعي شاقا عسيرا كلفنا من الجهد والمال الشيء الكثير، وما حيلتنا إذا كانت أكثر كتب الدعوة في حوزة طاهر سيف الدين الذي لقب نفسه بسلطان البهرة، وزعم أنه الداعي المطلق لإمام مستور من نسل الأئمة الفاطميين، وهو رجل شحيح بهذه الكتب على الباحثين بدعوى أنها كتب الدعوة السرية، ولكن حجته هذه أوهى من بيت العنكبوت؛ فإن الأئمة الفاطميين - الذين ورث دعوتهم - لم يستروا علومهم، بل عملوا على نشرها وإذاعتها: شجعوا العلم والعلماء، وأنشئوا دار العلم وخزائن الكتب ليطلع عليها من يشاء متى يشاء، وكانوا يطلبون من العلماء تأليف الكتب على النحو الذي سنراه في هذا الكتاب، فطاهر سيف الدين الآن يعمل عكس ما عمله الأئمة، ويأتي بآراء لم نعهدها في عصر الفاطميين، ولعله يريد أن يظل أتباعه في جهل مطبق حتى يستطيع أن يخدعهم بهذه الآراء الرجعية التي لا سند لها من تقاليد الأئمة ونظمهم، ومن يدري لعله يريد أن يستغل ما عليه أتباعه من جهل بحقيقة الدعوة الفاطمية كي يستولي على أموالهم باسم الدين، شأنه في ذلك شأن كل دجال مشعوذ، ومع ذلك كله ففي طائفة البهرة عدد من المثقفين المستنيرين الذين لا يعبئون بطاهر سيف الدين، ولا يقيمون وزنا لضلالاته، زودونا بالكتب التي حرصنا على تقديمها للجمهور قبل أن نقدم إليهم هذا الكتاب، حتى يدركوا حقيقة الدعوة الفاطمية من كتب الدعاة أنفسهم، فقد نشرنا ستة كتب فاطمية، وسيتبعها كتب أخرى إن شاء الله.
Bog aan la aqoon
والدعوة الفاطمية دعوة شيعية، وقبل أن نتحدث عنها وعن أثرها في مصر نتساءل: إلى أي حد عرفت مصر التشيع قبل دخول الفاطميين بها؟
كان المسلمون في مصر بعد الفتح العربي يجمعون على مذهب واحد، ويخضعون لإمام واحد، فلم نعرف أنه كان بين العرب الوافدين من خالف في مسألة الإمامة، أو تحدث عن تفضيل خليفة على آخر، ولكن بدأ المسلمون في عهد عثمان بن عفان يتحدثون عن سياسته وتصرفاته، فانتهز بعض المسلمين في مصر هذه الفرصة ودعوا لخلعه، ويروي الطبري قصة عجيبة عن ثورة المصريين ضد عثمان، وأن ذلك كان بتأثير عبد الله بن سبأ!
يقول الطبري: «كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم؛ فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما قال: لعجب من يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدا يرجع، وقد قال الله - عز وجل:
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد
فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي النبي. ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء ... إلخ.»
1
وهكذا ساق الطبري هذه الرواية بين روايات عديدة عن سبب قيام المصريين ضد عثمان، ونحن نعجب لهذه الرواية؛ إذ لم أجد في كتب التاريخ التي وضعها المصريون عن بلدهم وعن تراجم رجال مصر، مثل كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم، وكتب الكندي وابن الداية وابن زولاق، أو في كتب المتأخرين الذين نقلوا عن هؤلاء المؤرخين القدماء ما يشير إلى وفود شخصية عبد الله بن سبأ على مصر، أو أن أحدا من المصريين قال بمثل هذه المقالة التي زعم الطبري أن ابن سبأ علمها للمصريين، فلو صحت رواية الطبري لرأينا شيئا من إنكار الصحابة الذين كانوا في مصر إذ ذاك لهذه الدعوة السبئية، ومعارضتهم لها، ولا سيما أن ابن عبد الحكم وغيره رووا بعض الأحاديث عن صحابة مصر وترجموا لهم، ولم يرد ذكر ابن سبأ ولا آرائه، ولم يذكروا شيئا عن إنكار هذه الآراء أو معارضتها، فقصة ابن سبأ في مصر، وأنه بث آراء التشيع بين المصريين هي أقرب إلى الخرافات منها إلى أي شيء آخر.
حقيقة ثار بعض المصريين على عثمان، وقام محمد بن أبي حذيفة بانتزاع الإمارة في مصر، وطرد عامل عثمان من الفسطاط سنة 35ه، وزج بعدد من شيعة عثمان في السجون، ولكن ليس معنى ذلك أن ابن سبأ هو الذي أثر على الناس وألبهم على عثمان، إنما كان ذلك بتدبير بعض أبناء الصحابة الذين كرهوا أن يكون أمير مصر هو عبد الله بن أبي سرح أخو عثمان في الرضاعة، وكبر في نفوسهم أن يعزل عمرو بن العاص عن مصر، فلم تكن ثورة المصريين ضد عثمان تمت بسبب إلى تشيع المصريين إلى علي بن أبي طالب أو المطالبة بإمامته، وعلى الرغم من أن المصريين هم الذين بايعوا عليا بالخلافة بعد مقتل عثمان، فإن ذلك لم يكن عن حب خالص له أو عن عقيدة بأنه أحق الناس بها، فالمفاوضات التي كانت قبل مبايعته تدل على أنهم نظروا إلى علي بن أبي طالب نظرتهم إلى غيره من الصحابة، أضف إلى ذلك أن المصريين بعد أن بايعوا عليا عادوا إلى الفسطاط وهم يرجزون:
خذها إليك واحذرن أبا الحسن
إنا نمر الحرب إمرار الرسن
Bog aan la aqoon
بالسيف لن نخمد نيران الفتن
ففي هذا الرجز تحذير للإمام الجديد علي بن أبي طالب، فإن سار على نهج عثمان في سياسته فهي الحروب الدائمة والفتن المستمرة، فهذا دليل على أن المصريين لم يذهبوا في علي بن أبي طالب ما رواه الطبري عن ابن سبأ، وأن المصريين لم يقدسوا عليا أو يقولوا بوصايته. ثم إننا نرى المسلمين في مصر انقسموا بعد مقتل عثمان إلى فريقين: فريق يطالب بدم المقتول، وفريق يؤيد خلافة علي، وكانت مصر من الولايات التي خضعت للأمراء الذين أرسلهم علي، ولكن أنصار علي لم يكن لهم شأن كبير في الأحداث التي جرت، ولم يقيموا وزنا للنزاع بين علي ومعاوية؛ فقد سم الأشتر النخعي على حدود مصر، وقتل الوالي محمد بن أبي بكر الصديق، وأدخلت جثته في إهاب حمار، وأحرقت على مرأى من المصريين، فلم يحرك شيعته ساكنا، فلو كان التشيع في مصر قويا لأسهم الشيعة في النزاع بين علي ومعاوية، ولناصروا عليا، ونحن نتساءل أيضا: أين كان شيعة مصر عندما قتل علي وبعد مقتل الحسين؟ وأين كان شيعة مصر إبان حركة المختار الثقفي؟ هذه أسئلة لم يجب عنها المؤرخون، فالمصادر التي بين أيدينا لم تذكر شيئا عن قيام الشيعة بمصر في المساهمة في الحركات الشيعية التي كانت في الأقطار الأخرى، مما يجعلنا نذهب إلى أن الشيعة في مصر كانوا من الضعف لدرجة أنهم لم يؤثروا في الحياة السياسية والعقلية؛ ولذلك نعجب لقول المؤرخين الذين يزعمون أنه بعد أن تم الأمر للأمويين أصبح الجند وأهل شوكة مصر عثمانية وكثير من أهلها علوية،
2
والمقصود بالعثمانية أهل الكف الذين قالوا: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وإذا كان هذا موقف الشيعة في مصر من علي وابنه الحسين، فكيف نرى عددا من المصريين يخرج لمناصرة عبد الله بن الزبير في ثورته سنة 64ه ضد الأمويين، بل نرى ابن الزبير يرسل واليا من قبله على مصر هو عبد الرحمن بن جحدم الفهري وهو من الخوارج، وقد قدم مصر ومعه عدد كبير من الخوارج، فأظهروا بمصر التحكم ودعوا إليه،
3
ثم عادت الشوكة والقوة للعثمانية بعد فشل الزبيريين وعودة مصر لسلطان الأمويين، وكان الأمويون يظهرون في مصر سب علي بن أبي طالب دون خشية ثورة الشيعة، وذلك لضعف شأن الشيعة في مصر، ومع ذلك فقد روى المقريزي عن يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128ه أنه قال: نشأت بمصر وهي علوية، فقلبتها عثمانية.
4
فإن صح هذا القول عن يزيد، فإنما يدل على أن بعض المصريين كانوا يتحدثون عن فضائل علي، وأن يزيد استطاع أن يصرف الناس عن ذلك، ويجعلهم يميلون إلى رأي أهل الكف والمسائل الفقهية، ولا نستطيع أن نقول إن المصريين شغلوا بالآراء الشيعية التي شغلت شيعة العراق وفارس؛ فإننا نستطيع أن نمر بالعصر الأموي في مصر دون أن نسمع شيئا عن الشيعة بمصر، ومن يدري لعله كان بمصر شيعة هواهم مع أبناء علي وقلوبهم مع أهل البيت، ولكن سيوفهم كانت مع بني أمية، وأغفلت كتب التاريخ الحديث عنهم فأصبحنا لا ندري شيئا عن نشاط الشيعة في مصر في هذا العصر الأموي، ولا عن العقائد التي دانوا بها إلا ما قيل عن قصة فرار مروان بن محمد إلى مصر من وجه المسودة؛ فقد وجد الدعوة الجديدة سبقته إلى مصر، ووجدت بين المصريين قبولا، وقد ذكر الكندي أسماء زعماء هذه الحركة بمصر؛ ففي الحوف الشرقي كان أول من لبس السواد شرحبيل بن مذيلفة الكلبي، وفي الإسكندرية كان الأسود بن نافع، وبالصعيد عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني، وبأسوان يحيى بن مسلم.
5
ونحن نعلم أن دعوة المسودة في أول أمرها كانت للرضا من أهل البيت، وتوهم الشيعة في جميع الأقطار الإسلامية أن الدعوة لهم فاستجابوا لها، ونشطوا مع القائمين بها، فلعل هؤلاء الذين دعوا للمسودة في مصر كانوا من الشيعة، وتوهموا ما وهمه غيرهم، فإن صح ذلك فتكون هذه أول حركة شيعية في مصر علمنا بها.
Bog aan la aqoon
ومهما يكن من شيء فإن مروان استطاع أن يقضي على هذه الحركة وأن يقتل زعماءها ، ولكن القدر لم يمهله كي يستمر في حكم مصر، فقد دخلت جيوش العباسيين مصر سنة 133ه، وقبض على مروان بن محمد ومن معه من الموالين للأمويين، وخضعت مصر للعباسيين، وكان العباسيون في مبدأ أمرهم يتحببون إلى الشيعة، فمحي من مصر سب علي وآله، وظن العلويون أن الأيام أقبلت عليهم، وجاءت دولتهم التي طالما حلموا بها، ولكنهم سرعان ما فطنوا إلى أن العباسيين نقمة حلت بهم؛ ذلك أن العباسيين نكلوا بأهل البيت ومن لاذ بهم أو من عرف بولايتهم، فلا غرابة إذا كنا نرى في العصر العباسي سلسلة حركات شيعية تظهر من وقت إلى آخر، وأمعن الشيعة في التقية، وأكثروا من الدعوات السرية المختلفة، وكانت مصر من الميادين التي ظهرت فيها بعض حركات الشيعة في العصر العباسي، ففي خلافة أبي جعفر المنصور قدم مصر سنة 144ه علي بن محمد بن عبد الله ودعا لأبيه النفس الزكية، وانتشرت دعوته في البلاد على يد الداعي خالد بن سعيد بن ربيعة الصدفي، ولكن الوالي العباسي استطاع أن يقضي على هذه الحركة.
6
وفي عهد المتوكل العباسي أرسل إلى والي مصر بإخراج كل أهل البيت من مصر إلى العراق، فأخرج الوالي إسحاق بن يحيى سنة 235ه بعض أهل البيت بعد أن فرق فيهم الأموال ليتحملوا بها، فأعطى كل رجل ثلاثين دينارا والمرأة خمسة عشر دينارا،
7
فاضطر من كان بمصر من الشيعة إلى التقية خوفا من بطش العباسيين، ولا سيما بعد أن أصبح أكثر الولاة في مصر من الأترك الذين كانوا شديدي التعصب ضد الشيعة، ولعل أكثر الولاة الأتراك اضطهادا للشيعة ومطاردة لهم هو الوالي يزيد بن عبد الله الذي ولي مصر سنة 242ه، وظل على مصر حتى سنة 255ه، وتذكر كتب التاريخ قصصا عديدة عما أتاه هذا الوالي من اضطهاد للشيعة، من ذلك أنه ضرب رجلا من الجند في شيء وجب عليه، فأقسم الجندي بحق الحسن والحسين إلا أعفاه، فزاده الوالي ثلاثين درة، ورفع صاحب البريد أمر هذا الجندي إلى الخليفة في بغداد ، فأمر بضربه مائة سوط، ثم حمل بعد ذلك إلى بغداد،
8
وفي أيامه دل على علوي هو محمد بن علي بن الحسن بن علي زين العابدين، فذهب الوالي وأحرق الموضع الذي به العلوي بعد أن قبض عليه،
9
وفي أيامه أيضا أتاه من بغداد بأن لا يقبل علوي ضيعة ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، ومن كانت بينه وبين أحد العلويين خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة،
10
Bog aan la aqoon
وفي سنة 250ه أخرج هذا الوالي ستة رجال من الطالبيين إلى العراق، وفي رجب من السنة التالية أخرج ثمانية منهم،
11
وكانت هذه السياسة التعسفية سببا في أن ينضم أحد العلويين وهو عبد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الأرقط، إلى ثورة جابر المدلجي سنة 252ه، وقوي الثائرون بانضمامه إليهم، وزاد عددهم فهزموا جيش الوالي الذي استعان بالخليفة العباسي فأمده الجيش بقيادة مزاحم بن خاقان فأخمدت الثورة، واستأمن ابن الأرقط العلوي فأخرج من مصر.
12
وفي سنة 254ه ثار بغا الأكبر وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن طباطبا، ولكنه هزم وقتل، وفي سنة 255ه في ولاية أحمد بن طولون خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، وانتشرت دعوته في الإسكندرية وبرقة والصعيد ولكنه قتل، وفي هذه السنة أيضا خرج بمصر ابن الصوفي وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى من نسل عمر بن أبي طالب، واستمر ثائرا يحارب ابن طولون أربع سنوات إلى أن هزم، فاضطر إلى أن يهرب إلى مكة سنة 259ه.
وكانت المصائب التي صبها الجند من السودان على الشيعة بمصر أضعاف ما نال الشيعة من اضطهاد الولاة، فقد كثر عدد السودان في مصر واستفحل أمرهم، فأصبحوا مصدر فتن بين أهل السنة والشيعة، ففي سنة 350ه خرج شيعة مصر إلى قبر كلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق، وأقاموا هناك مأتم الحسين، فتدخل الجند واضطربت الأمور بين الجند والشيعة، وقتل جماعة من الفريقين، فلم يكتف الجند من السودان بذلك بل ساروا في الطرقات يصيحون: معاوية خال علي! حتى إنهم كانوا يصيحون بنقيب الأشراف الحسنيين أبي جعفر مسلم، ويهتفون بذلك في وجهه،
13
ولما ورد الخبر بقيام بني الحسن بمكة ومحاربتهم الحاج، خرج خلق من المصريين، ولقوا كافورا الأخشيدي بالميدان، وصاحوا: معاوية خال علي! وسألوه أن يبعث جيشا لمحاربة بني الحسن.
14
وهكذا كان حال الشيعة في مصر، فقد أصابهم ما أصاب غيرهم في الأقطار الإسلامية من اضطهاد العباسيين ونقمتهم، وهذه الأمثلة التي أوردنا بعضها إن دلت على شيء فإنما تدل على أن التشيع بدأ يدخل مصر، بل أخذ يقوى ويشتد أزره، وأصبح الشيعة يؤثرون في الحياة العامة بمصر، ويقومون بثورات ضد الولاة. أضف إلى ذلك أن مصر في هذا العصر شاهدت عددا من العلماء الذين كانوا يفضلون عليا على الشيخين، ويخلصون في حبهم لأهل البيت، ولعل الشافعي أصدق مثل لذلك، ففي شعره ما يدل على عاطفة مخلصة قوية لأهل البيت، فهو يقول:
Bog aan la aqoon
يا آل بيت رسول الله حبكم
فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له
15
فهذا قول إمام من أئمة أهل السنة، وصاحب مذهب فقهي من مذاهبهم، فقد ذهب إلى أن حب أهل البيت فرض أنزله الله تعالى في القرآن، وأن الله تعالى لا يقبل صلاة من لا يصلي على أهل البيت، وهذه آراء شيعية لا يقول بها إلا متعصب في تشيعه، ونحن نشك في أن تصدر مثل هذه الآراء من الشافعي، ونخشى أن تكون موضوعة ونسبت إليه، ولكن الشافعي يظهر مرة أخرى أنه يحب عليا، ولا ينكر فضل الشيخين، وهذا الرأي يخالف الرأي السابق، فالشافعي يقول:
إذا نحن فضلنا عليا فإننا
روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل
وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته
رميت بنصب عند ذكري للفضل
Bog aan la aqoon
فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما
بحبيهما حتى أوسد في الرمل
وهكذا كان الشافعي في أحاديثه وأماليه وأشعاره يشيد بفضل علي وحبه، وأخذ المصريون عن الشافعي فيما أخذوه هذا الحب لأهل البيت، واتخذ المصريون عادة التبرك بأهل البيت أحياء وأمواتا، فقد قيل: إنه في سنة 208ه توفيت بمصر السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد، فأراد زوجها إسحاق بن جعفر الصادق أن يحملها ليدفنها بالمدينة، ولكن أهل مصر سألوه أن يتركها في مصر ليتبركوا بها،
16
فدفنت في مصر وبنى قبرها الوالي عبيد الله بن السري بن الحكم، ولا يزال قبرها إلى الآن مقصد المسلمين في مصر يتبركون بها. ووضع النسائي المحدث المعروف كتابا في فضائل علي بن أبي طالب رواه عنه المصريون، ومنهم القاضي الفقيه محمد بن أحمد بن الحداد،
17
وكان هذا القاضي ممن يفضلون عليا، ولكنه لم يستطع أن يصرح بذلك خوفا من السلطان ومن شغب العامة، ويروي ابن زولاق أن ابن الحداد كان في مجلس أبي القاسم بن الإخشيد مع جماعة، فلما نهض ابن الحداد أمسكه ابن الإخشيد وسأله: أيهما أفضل أبو بكر وعمر أم علي؟ فقال القاضي: الاثنان حذاء واحد. فكرر عليه السؤال فقال ابن الحداد: إن كان عندك فعلي، وإن كان بره - في الخارج - فأبو بكر.
18
وشبيه بهذا ما يرويه ابن زولاق أيضا عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فقيه مصر ورئيس مذهب مالك في عصره، أن رجلا سأله: أيهما أفضل أبو بكر وعمر أم علي؟ فاستعفاه ابن عبد الحكم، فألح عليه الرجل، فقال له ابن عبد الحكم: إن أخبرت أحدا عما أقول لك كلمت أحمد بن طولون الأمير فضربك بالسياط، علي أفضل.
19
Bog aan la aqoon
وقبل أن يموت ابن المزرع كان في حلقته يلقي دروسه الأدبية واللغوية على المصريين، فتطرق الحديث عن أبي بكر وعمر وعلي، فانقسم الناس إلى طائفتين؛ طائفة تزيد فضائل علي، وطائفة تزيد فضائل أبي بكر، وكانت هذه الطائفة الأخيرة أكبر،
20
فهذا كله يدل على أن المصريين أخذوا ينقسمون بين أبي بكر وعلي، وأن الحديث قد كثر في التفضيل بينهما، ولكن الذين كانوا يفضلون عليا كانوا يتسترون خوفا من شغب العامة، وبطش الولاة وجندهم من السودان.
على أن أمر الشيعة بمصر أخذ يقوى منذ استطاع دعاة عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية بسط دعوتهم في شمال أفريقيا، وتقويض أركان دولة بني الأغلب، وقد كان للمهدي دعاة وأنصار بمصر، ويحدثنا القاضي النعمان في كتابه افتتاح الدعوة، أن المهدي نفسه دخل مصر مستترا في زي التجار هربا من العباسيين، فأتت الكتب من بغداد إلى والي مصر بصفة المهدي والأمر في طلبه، وكان بعض أهل خاصة ذلك الوالي وليا مؤمنا «بدعوة المهدي» فأسرع إلى المهدي بالخبر، ولطف في أمره إلى أن خرج المهدي من مصر ومعه القائم وبعض عبيده.
21
ويروي صاحب سيرة جعفر بن علي الحاجب: وسرنا - أي المهدي ورجاله - من الرملة إلى مصر، فاستقبلنا أبو علي الداعي، وكان مقيما يدعو بها وأكثر دعاة الإمام من قبله، وكان فيروز الذي رعاه ورباه وزوجه ابنته أم أبي الحسين ولده، فتقدم إليه المهدي قبل دخولنا مصر بأن لا ينزله عنده ولا عند من يشار إليه بشيء من أمرنا، وأن ينزله عند من يثق به، فأنزله عند ابن عياش.
22
ويقول في موضع آخر عن داعي المهدي بمصر: ولما صح عند فيروز خروج المهدي إلى المغرب تغيرت نيته وعزم على النفاق، وكان قد زوج ابنته كما ذكرنا أولا بأبي علي الداعي بمصر، ومحمد أبو الحسين بن أبي علي الداعي ولده، وقد بلغ محمد أبو الحسين هذا مع الأئمة المهدي بالله والقائم بأمر الله والمنصور بالله والمعز لدين الله - صلوات الله عليهم - المحل الجليل العظيم، وكان داعي الدعاة.
23
ولما تم الأمر للمهدي بالمغرب سنة 296ه راسله شيعته بمصر للنهوض إليها، وفعلا حاول الفاطميون غزو مصر عدة مرات، منها تلك الحملة التي كانت بقيادة حباسة بن يوسف الكتامي التي نجحت في دخول الإسكندرية، ولكن تكاثرت جيوش العباسيين فانهزم حباسة،
Bog aan la aqoon
24
وشعر والي مصر أن بين المصريين من كاتب الفاطميين لغزو البلاد، فتتبعهم الوالي، وسجن منهم عددا كبيرا، وعذب آخرين بقطع أيديهم وأرجلهم،
25
وفي ذلك قال الشاعر المصري ابن مهران:
وقد وافى حباسة في كتام
بكل مهند وبكل خطي
وقد حشدوا لمصر ودون مصر
له خرط القتاد وأي خرط
وأقبل جاهلا حتى تخطى
وجاز بجهله حد التخطي
Bog aan la aqoon
بكتب جماعة قد كاتبوه
من أقباط بمصر وغير قبطي
وكل كاتبوه ونافقونا
وكل في البلاد له موطي
فقل لحباسة إن كنت عنا
مضيت فإن قتلك ليس يبطي
26
كذلك نذكر الحملة التي كان يقودها القائم بأمر الله في سنة 307ه، فقد فتح القائم بأمر الله الإسكندرية، ثم سار إلى الفيوم، وكاتب المصريين بالنثر تارة وبالشعر تارة أخرى، فكان القائد مؤنس الخادم يصادر هذه المكاتبات، ويرسلها إلى الخليفة العباسي المقتدر، وظلت أحوال القائم بمصر مضطربة حتى اضطر إلى العودة إلى المغرب سنة 309ه، وقد حفظ عريب بن سعد القرطبي صورة مقطوعة من الشعر، قيل: إن القائم أرسلها إلى شيعته من المصريين يستنهض همهم، وذهب عريب إلى أن هذه المقطوعة أرسلت إلى بغداد، وأن الخليفة أمر محمد بن يحيى الصولي بالرد عليها، وهاك المقطوعة:
أيا أهل شرق الله زالت حلومكم
أم اختدعت من قلة الفهم والأدب
Bog aan la aqoon
صلاتكم مع من؟ وحجكم بمن؟
وغزوكم فيمن؟ أجيبوا بلا كذب
صلاتكم والحج والغزو ويلكم
بشراب خمر عاكفين على الريب
ألم ترني بعت الرفاهة بالسرى
وقمت بأمر الله حقا كما وجب
صبرت وفي الصبر النجاح وربما
تعجل ذو رأي فأخطأ ولم يصب
إلى أن أراد الله إعزاز دينه
فقمت بأمر الله قومة محتسب
Bog aan la aqoon
وناديت أهل الغرب دعوة واثق
برب كريم من تولاه لم يخب
فجاءوا سراعا نحو أصيد ماجد
يبادونه بالطوع من جملة العرب
وسرت بخيل الله تلقاء أرضكم
وقد لاح وجه الموت من خلل الحجب
وأردفتها خيلا عتاقا يقودها
رجال كأمثال الليوث لها جنب
شعارهم جدي ودعوتهم أبي
وقولهم قولي على النأي والقرب
Bog aan la aqoon
فكان بحمد الله ما قد عرفتم
وفزت بسهم الفلح والنصر والغلب
وذلك دأبي ما بقيت ودأبكم
فدونكم حربا تضرم كاللهب
27
وتتابعت غزوات الفاطميين لمصر فكانت ترد مهزومة مدحورة، فاضطر شيعة المهدي إلى اتخاذ التقية وإلى الدعوة السرية حتى ولي كافور نيابة عن ابن سيده الحسن بن عبد الله بن طغج، وكان ابن طغج ضعيفا، فطمع فيه الجند وكرهوه، واستغل ضعفه أحد دعاة الفاطميين وهو أبو جعفر بن نصر، وحبب إليه دخول مذهبه، ومكاتبة المعز لدين الله.
28
ويذكر ابن زولاق أنه كان بمصر داعية آخر يسمى بأبي عيسى عبد العزيز بن أحمد،
29
ويخيل إلي أن أبا جعفر بن نصر الداعي كان معروفا أكثر من صاحبه، وأنه كان من جلساء كافور وبني طغج، وعرف عنه الدعوة للفاطميين في مصر، ولا أدري سبب سكوت الأمير عنه. ويذكر ابن زولاق أن هذا الداعي بنى دارا له بمصر، فمر عليه سيبويه المصري فقال: كافور الأسود غدا يؤخذ بأذنه، إنما بنيت هذا الدار لصاحب المغرب تؤخذ فيها البيعة على كل تابع ومتبوع، وذليل مرفوع، تغير فيها الأحوال وتحمل إليها الأموال.
Bog aan la aqoon
30
معنى هذا كله: أن الدعوة الفاطمية كانت أسبق إلى مصر من جيوش الفاطميين، وأن الدعاة استطاعوا أن يبذروا بين بعض المصريين عقائد الفاطميين، فاستجاب لهم من استجاب، وكانوا عونا لجيش جوهر القائد في دخول مصر سنة 358ه.
إذن كان بمصر شيعة، ولكننا لا ندري إلى أي فرقة من فرق الشيعة كان المصريون، ويغلب على ظني أن المصريين لم يعتنقوا مذهبا من مذاهب التشيع كغيرهم من فرق الشيعة الأخرى، ولم يتخذوا التشيع من ناحية العبادة العملية كما فعل غيرهم، إنما كان هواهم مع علي بن أبي طالب وأهل بيته، ولكنهم لم يجاهدوا كما جاهد الشيعة في الأقطار الأخرى، ولم يفلسفوا عقيدتهم الدينية على النحو الذي نراه عند غيرهم، بل اكتفوا بالقول بتفضيل علي، وحرصوا على حبهم وولائهم لأهل البيت، يكرمون الأحياء ويتبركون بالأموات، حتى دخل جوهر مصر، ووجد المصريون أنفسهم أن لا طاقة لهم بقتاله وصده عن ديارهم، فأرسلوا إليه وفدا برياسة أحد العلويين بمصر كان نقيب الأشراف الحسنيين بها، وهو أبو جعفر مسلم بن عبد الله الحسني، وطلبوا من جوهر الأمان والصلح، فأجابهم، وكتب لهم الأمان، وفيه نص بتأمين المصريين على عقيدتهم، فقد كان السواد الأعظم من المصريين حريصين أشد الحرص على أن لا يتحولوا عن مذهبهم الديني الذي كانوا عليه، وهو مذهب أهل الجماعة والسنة، وأن لا يتعرض الفاطميون لعقائدهم التي دانوا بها، فألحوا في أن يذكر جوهر ذلك في كتاب أمانه لهم. فهل وفى الفاطميون في مصر بذلك؟ الواقع أن الفاطميين لم يحترموا الأمان الذي أعطاه جوهر للمصريين، فقد عملوا على تشيع المصريين على النحو الذي سنراه في هذا الكتاب، فأصبحت مصر شيعية، لها من الآراء ما تتمايز به في هذا العصر عن جميع عصورها التاريخية، وأثرت هذه العقائد الفاطمية الجديدة على الحياة المصرية، بل تعدت مصر إلى غيرها من البلدان الأخرى ولا سيما التي خضعت لنفوذ الفاطميين، فأثرت في الحياة العقلية الإسلامية تأثيرا كان له خطره في جميع البلدان الإسلامية.
وهذا الكتاب هو محاولة الكشف عن الحياة العقلية والأدبية بمصر في عصر الفاطميين، وهو عصر غامض لنا أشد الغموض على الرغم مما كتب حوله، وكان عصر الفاطميين عصرا زاهرا في الأدب والعلم، ولكن ما بقي لنا من آثار هذه الفنون والعلوم شيء قليل جدا متفرق في كتب مختلفة، وقد حاولنا مما بقي لنا أن نعطي صورة لما كانت عليه الحياة العقلية والأدبية، ونرجو أن نكون قد وفقنا في هذه المحاولة.
محمد كامل حسين
جزيرة الروضة في 15 أبريل سنة 1950
27 جمادى الآخرة سنة 1369
الكتاب الأول: في الحياة العقلية
الباب الأول
في الدعوة الفاطمية
Bog aan la aqoon
الفصل الأول
عقائد الفاطميين
جاء الفاطميون مصر يدعون إلى عقيدة تختلف عما كان عليه أكثر المسلمين؛ فقد كان السواد الأعظم من مسلمي مصر ينقسمون بين مذهب مالك وبين مذهب الشافعي، وقليل منهم من كان على مذهب أبي حنيفة، ومهما كانت الفروق بين هذه المذاهب فكلها من مذاهب أهل السنة والجماعة التي تخالف عقائد الفرق الشيعية وتباينها؛ والفاطميون فرقة من فرق الشيعة عرفت بالإسماعيلية نسبة إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق. قال الفاطميون بنبوة محمد عليه السلام، ووصاية علي بن أبي طالب،
1
وإمامة ابنه الحسن، فالحسين، فزين العابدين، فمحمد الباقر، فجعفر الصادق. فهم على هذا النحو يتفقون في تسلسل الإمامة مع الشيعة الاثني عشرية، وبعد وفاة جعفر الصادق سنة 148ه انقسمت الشيعة الإمامية إلى الإسماعيلية، وهي الفرقة التي قالت بإمامة إسماعيل بن جعفر، فابنه محمد بن إسماعيل، فأئمة «دور الستر» وهم: عبد الله بن محمد، فأحمد بن عبد الله، فالحسين بن أحمد،
2
ثم أئمة دور الظهور، وأولهم عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية. وإذا قرأنا كتب دعاة الفاطميين استطعنا أن نطمئن إلى أن الفاطميين نظروا إلى أئمتهم على أنهم من البشر، يجري عليهم ما يجري على البشر من موت وحياة، فهم في ذلك يخالفون الغلاة من الشيعة الذين ألهوا عليا والأئمة من ذريته، وقالوا: إنهم أحياء يرزقون، ويخالفون الشيعة الاثني عشرية الذين ذهبوا إلى غيبة الإمام محمد بن الحسن العسكري، وأنه سيظل حيا حتى يعود ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا. وقال الفاطميون: إن الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ولا تنتقل من أخ إلى أخ بعد انتقالها من الحسن إلى الحسين ابني علي بن أبي طالب، فالأب ينص على ابنه في حياته. وهذه العقيدة أصل من أصول المذهب في تسلسل الإمامة عند الفاطميين، وقد أولوا قول الله تعالى:
وجعلها كلمة باقية في عقبه
بأن الله - سبحانه وتعالى - لا يترك العالم خاليا من إمام ظاهر مكشوف أو باطن مستور، تنتقل الإمامة إليه بعد أبيه الإمام من نسل علي بن أبي طالب.
والإمام حجة الله على عباده، وهاديهم إلى الطريق القويم؛ فوجب على كل مؤمن أن يتبع هذا الإمام، وجعلوا ولاية الإمام أحد أركان الدين ودعائمه، بل ذهبوا إلى أن الولاية أفضل دعائم الدين وأقواها، ولا يستقيم الدين إلا بها. قال المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي في مجالسه: «فلو أن رجلا عمل بفرائض الله تعالى وسننه التي جاء بها رسوله كلها، ثم لم يقترن بعمله اعتقاد ولاية الرسول - عليه الصلاة والسلام - الآتي بها لم يغن عنه ما عمل فتيلا، ولم يتبع غير أهل النار سبيلا؛ إذ ولاية الرسول كالمركز الذي تدور عليه دائرة الفرائض، فلا يصح وجودها إلا بوجوده، وإذا كانت هذه نصبة الرسول في حياته كانت نصبة من يوليه أمر دينه مثلها، ومثل ذلك نصبة من يليه ومن يلي من يليه ما انتقلت الولاية من واحد إلى واحد، وورثها ولد عن والد؛ إذ الولاية هي الأصل الذي يدور عليه موضوع الفرائض.»
Bog aan la aqoon