وقد أحكم توزيع مياه النيل بالعدل والقسطاس المستقيم بين أرض الأمير الكبير والفلاح الصغير، ونظمت وسائل النقل واتسع نطاقها وأصبح المرضى # يعالجون في مستشفيات جيدة الإدارة، ولم يعد المجرمون والمجانين يعاملون الآن معاملة الوحوش الضاربة، بل إن الحيوان الأعجم قد مسته يد الرفق فوجد من يعني به"1.
وفي اعتقادي أن بعض ما ذكره "كرومر" صحيح، وبعضه قد بالغ فيه، فإن الإصلاح قد ابتدأ على يد محمد علي، وذهب عهد الأتراك والمماليك، المليء بالمآسى الدامية، والسخرة المقيتة، وشعرت مصر بشيء من العزة الاستقلال في عهد محمد علي وإسماعيل، ولولا ما أراده إسماعيل من الطفرة لمصر في نهضتها لسارت قدما في سبيل الرقى، غير متخلفة، أو محتاجة إلى أي مساعدة أجنبية، وقد ذكرنا في الجزء الأول ما قام به عرابي في هذا الشأن، وكان من الممكن أن يتم ما بدأه لو لم ينف عن مصر ويحتلها الإنجليز2.
أجل؛ إن الإنجليز قد أحكموا توزيع المياه بالعدل، ورفعوا عن كاهل الفلاح كثيرا من الضرائب المرهقة التي نفرته من الأرض، ودفعته إلى الهرب منها. ولم يكن غرض الإنجليز -فيما أعتقد- هو خدمة الفلاح محبة فيه، ورغبة في إسعاده لوجه الخير، ولكن كان غرضهم الأول هو خدمة بلادهم. فمصر الغنية الهادئة، الرخيصة الخصبة، تستطيع أن تعين إنجلترا المعوزة في المحصولات الزراعية بما تغله من خيرات، الفلاح الذي يمثل جمهرة الأمة وسواد الشعب، إذا شعر بشيء من الطمأنينة والراحة تغني بمأثر الإنجليز، وسخط على سادته وكبرائه، وفي هذا تمكين لقدم المستعمرين، وتكأة يعتمدون عليها في تسويغ مقامهم غير الحميد بمصر، واستعمار أهلها.
Bogga 18