3- وأما مقالاته بالأستاذ فكانت صرخة أخرى مدوية, حاول بها إيقاظ مصر كي تتنبه لما يحدق بها من أخطار، وعالج في هذه المقالات موضوعات اجتماعية وسياسية وخلقية لم تخطر على بال أحد من قبل، فتراه يتكلم عن التعليم وأثره في الحضارة والعمران, وما يجلبه الجهل من الآفات الاجتماعية والعلل الخلقية, ويعدد هذه المثالب, ويبين أثرها في تأخر الأمة، وتارة يحث أبناء مصر على الاتحاد والتآزر والالتفاف حول الوطن والأمير والسلطان, والتنكر للأجانب مهما كان شأنهم، والتحذير من غواياتهم، وهو أول من دعا إلى أن مصر يجب أن تكون للمصريين لا لتركيا ولا للأوربيين، فكانت لفتة وطنية لا تخرج إلا من قلب عامر بحب بلاده، ولا سيما في ذلك الزمان الذي لم تفكر فيه أية دولة عربية في هذا المعنى، وإنما كانت الفكرة الوطنية عندها عاطفة غامضة تربط مصيرها بمصير # تركيا، ولم تكن الفكرة جلية -كما يجب- عند النديم، ولكنها خطرات الوطني المتحمس, جعلته يفكر مثل هذا التفكير، وإن كنا نراه أحيانا يشايع الرأي السائد، ويدعو للسلطان والالتفاف حوله من مثل قوله: "هذه يدي في يد من أضعها؟ أضعها في يد وطنيك، وأعقد خنصريكما على محبة أمير البلاد، مرتبطة هذه المحبة بمحبة أمير المؤمنين، وإلا فقطعها خير من وضعها في يد أجنبي يستميلك إليه بوعود كاذبة وحيل واهية، ويظهر لك سعيه في صالحك وحبه لتقدمك، ورميك بأوهام لا توجد إلا بينك وبينه، ويغرك بدعوى انفراده بالسلطة عليك، وبعد الدول عنك، ويضللك بنسبة أمرائك للقصور، وحكامك للجهل والظلم، ويصور لك الأباطيل في صورة حق يخدعك به، ويحول أفكارك الشرقية إلى أفكار غربية تأخذها وتقول بها، فتكون يده القوية وعونه الأكبر على ضياع حقوقك وإذلال إخوانك، واسترقاق أهلك, وانتزاع سلطة أميرك وسلطانك, وأنت لا تشعر بشيء من هذا".
وقد يفسر كلام النديم بدعوته للسلطان والحض على الولاء له، بأنه ولاء ديني، بينما الولاء لأمير البلاد ولاء وطني، وهذا ما أرجحه، فإن النديم اشتهر بدعوته الجريئة "مصر للمصريين" وكان دعوة "عرابي" كذلك، وإذا تعارض الدين والوطنية، فضل الوطنية على الدين؛ لأنه جاذبية الوطن عنده أقوى من جاذبية الدين، ويعلل لذلك تعليلا فلسفيا في مقالة نفيسة بالأستاذ هي "تجاذب الجنسيات والأديان" يقول فيها: "لو وقعت حرب بين عربي وعجمي تماثلا دينيا, هربت الطباع إلى الجنسية, فترى عربيا في أقصى الأرض يفرح بانتصار مثيله على العجمي والعكس بالعكس" ويعلل لاتحاد الأقباط والمسلمين بمصر, ومحبة كل فريق للآخر بقوة الرابطة الجنسية، فإن كثيرا من مسلمي مصر أقباط أسلموا، فنداء الدم بليغ، وفي هذا يقول: "وأقرب الأماكن إلينا مصر التي نحن فيها، فإنها بلاد إنسانية مختلطة بقليل من الأقباط الذين تجذبهم الجنسية إلى كثير ممن تولدوا ممن أسلم من سابقيهم، وتدفعهم الوطنية إلى التلاصق بالمجموع بجاذبية الوطنية والألفة وطول المعاشرة"، وهذه خطرات وطنية صادقة العاطفة, عميقة الفكرة، بعيدة النظر، ولقد قال ولي الدين يكن عن عبد الله نديم:
Bogga 328