فقدم السيد جمال الدين مصر، ودخلها في مارس سنة 1871، ومكث بها ثماني سنوات, كانت خير السنين بركة على مصر وعلى الشرق العربي والإسلامي، فقد حاول جمال الدين من قبل أن يغرس تعاليمه, وينفخ في الشعوب الشرقية من روحه؛ ولكن وجد أرضا مجدبة، وشعوبا ميتة لم تسمع لندائه, وما أن نزل مصر حتى فتحت له ذارعيها، وحببت له الإقامة به، والتف حوله لفيف من # أبنائها، من كل تواق للحرية، محب للعلم, حريص على نفع وطنه وإنهاض قومه، وتجاوبت روحهم وروحه, ووجدوا فيه المعلم الفذ, والمفكر الجريء, وصاحب العقل المستقيم، ووجد فيهم بررة، وعقولا خصبة، ونفوسا تتحرق شوقا للحرية والعدل.
كانت هذه السنوات الثمان مليئة بالأحداث، فقد غرقت مصر في ديونها التي اقترضها إسماعيل، وبدت مطامع إنجلترا وفرنسا جلية، فأنشىء صندوق الدين, وفرضت الرقابة الثنائية, واستحالت هذه الرقابة إلى مشاركة في الحكم، إذ دخل وزارة نوبار باشا وزيران أوربيان؛ أحدهما فرنسي, والآخر إنجليزي، يشرف الفرنسي على وزارة الأشغال, ويشرف الإنجليزي على وزارة المال1، وأي احتلال أبشع من هذا؟ إن الذي يصرف المال قوام على شئون الدول، ومن يتولى الأشغال مهيمن على تقدم الأمة، فكان عجبا ألا ينغمس السيد جمال الدين في السياسة من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، وهو الذي حاول من قبل أن يثل عرشا، وينصب ملكا، ويصلح من شئون عبد الحميد المستبد الطاغية.
جاء جمال الدين مصر وهذه ظروفها، ووجد من إسماعيل صدرا رحبا؛ لأنه رأى فيه العالم المشهور بفلسفته وعلمه، فوجوده بمصر ربح لا يقدر، وهو في نظره أجل وأنفع من بعض المعاهد العلمية التي أنشأها؛ لأنه معهد حي حنكته التجارب, وأنضجته الحوادث، ولم يكن السيد قد عرف بآرائه السياسية المتطرفة, بل غلبت عليه الصبغة العلمية، ولم يكن إسماعيل يخشى على حكمه أحدا، وهو الحاكم الذي لا يرجع في حكم، والذي يتصرف في أقدار البلاد دون رقيب أو حسيب، وكان مجلس الشوى آلة مطواعة في يده، لا يجهر باعتراض، أو يجرؤ على مخالفة، ثم إن إسماعيل كان يتحدى الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ويتوق جهده إلى الاستقلال بأمر مصر، وقد رأى أن الآستانة قد ضاقت رحابها بالسيد جمال الدين, وخافت من آرائه وتعاليمه، فلتبرهن مصر على أنها أقوى من تركيا وأكرم نفسا، وأقدر على هضم آراء جمال الدين من أي بلد في الشرق، ولم يكتف إسماعيل بهذا الترحاب, بل أجرى على السيد راتبا شهريا زيادة في إكرامه.
Bogga 264