ولكني وأنا الآن واقف بينك وبين هذه الأمة سأحجب عنك سحب الأشجان ووابل الدموع، وأبعث إليك بطائفة من الأخبار المفرحة.
أولها، يا أخي فيصل، هو أنك في انتقالك إلى رحمة الله، فتحت فتحا مبينا؛ فقد كنت ملك العراق فصرت ملك الأمة العربية، كنت سياسيا عاملا في العراق فصرت قوة للعمل في قلوب الناطقين بالضاد في كل مكان، كنت تجاهد في سبيل العرب فصرت علما للجهاد في كل قطر، في كل بلد، في كل ربع عربي.
فما أجمل الموت الذي أتى بروحك حتى على القلوب الغريبة القصية، فأحيا فيها حب العرب، والإعجاب بالعرب! ما أجمل الموت الذي حمل بين جناحيه تعاويذ اسمك إلى ما وراء الآفاق، إلى كل قطر عربي صالت عليه الأجانب! ما أجمل الموت الذي طاف بنور وجهك في الخافقين وهو يشعل مصابيح اليقظة العربية!
وما أجمل الموت الذي أشعل نور الحقيقة، في قلوب العراقيين جميعا، فاجتمعوا حول جثمانك يذرفون الدموع السخية، وينثرون أزاهر الحب والإجلال في طريقك إلى المقر الأخير.
وهناك في فسيح العراء، قرب القصر الذي كان مهد الجهاد وعرشه، اجتمعت الوفود من الأقطار العربية كلها، واحتشد الألوف من العراقيين ليبكوا فيصل العرب، وليمجدوا فيصل العرب، وقالوا جميعا - قالوا أخيرا - إنه مات في حومة الجهاد، وإنه سيد الشهداء.
وليس في العراق اليوم من ينكر أنك كنت فيه الكل في الكل، وكنت تذكي نار الجهاد، وتنير مصباح الهدى في أحزاب الأمة كلها، وفي جهاز الدولة بأجمعه؛ فكنت الملك، وكنت الزعيم الأكبر، كنت النائب والوزير والمعلم، كنت الهادي، وكنت الفيصل في جميع الأمور.
وما كان خارج العراق بعد فراقك؟ ينبغي أن نعود سبعمائة سنة لنجد ملكا آخر توحدت في حبه وإجلاله قلوب العرب في كل الأقطار، وقلوب المسلمين في كل مكان، فمنذ أيام صلاح الدين إلى اليوم ما رفع العرب، ما رفع الإسلام، علما واحدا فوق الأعلام، وما مجدوا ملكا كما مجدوك.
لست أدري يا أخي فيصل، لماذا يخاف الناس الموت؛ فالذي يموت في جهله وخموله يرتاح من ذلة الخمول والجهل، والذي يموت في مجده وجهاده يزيده الموت مجدا ويشعل مصباح جهاده في قلوب الناس.
وهذه حفلات الأربعين التي أقيمت لذكرك الخالد في كل بلد عربي، بل أقيمت في الشرق وفي الغرب، في قارات الدنيا، في نيويورك، في البرازيل، في بونس أيرس، في لندن، في جنيف، في باريس، في برلين، حتى في السنغال، صلى الناس على فيصل، وترحم الناس عليه.
قلت الناس، وما قلت العرب وما قلت المسلمون. الناس، وفيهم المسيحي واليهودي والوثني، وفيهم العربي والأميركي والأوروبي؛ اجتمعوا في أربعة أقطار العالم ليترحموا على فيصل، ويمجدوا ذكر فيصل، ويرفعوا اسم العرب، وعلم القضية العربية. وهذا ما يسرك، ولا ريب، كما يسرني، كما يسر كل عربي، كما يسر كل امرئ ينشد الحرية والاستقلال والوحدة والسلام، لأمته ولسواها من الأمم.
Bog aan la aqoon