ثم أدرك ثأره مرة ثانية في موقف آخر بباريس، فرمى الوزير الفرنسي بسهم نافذ من سهام التهكم، ذلك عندما وقف في المؤتمر يبسط قضية العرب، فذكر المساعدة التي جاءتهم من الحكومة البريطانية، فقال بيشون متغيظا: «والحكومة الفرنسية، أليس عند الأمير ما يقوله عن مساعدتها العرب؟» فوقف فيصل هنيهة، وفيه نزوة إلى الصراحة، فأومأ إليه الرئيس ولسون مشجعا، فقال: «نعم، قد ساعدتنا الحكومة الفرنسية ببضعة مدافع من زمان نابوليون.» وكانت الضحكة التي زادت بتغيظ بيشون.
وما نجا حتى كليمنصو من سهام فيصل، إلا أن النصل في السهم هذه المرة لم يكن عربيا. «عندما سألني ذات يوم المستر لويد جورج رأيي في المؤتمر، قصصت عليه قصة القافلة وقلت إن دليلها يركب دائما حمارا، فقال على الفور ضاحكا: ومن هو حماري أنا ...؟» •••
كان فيصل يروي الأخبار - إن كان عن نفسه أو عن سواه - بسذاجة جميلة وصراحة صادقة، لا يعتريهما شيء من التحفظ والاستدراك، فيجيء كلامه عفو القريحة دون تعمل ودون تنميق. حدثنا مرة عن أيامه الحجازية عندما كان يخرج وأخوه عبد الله لتأديب البدو: «نحن نعرف البادية، يا محروث، ونعرف مشقاتها ومسراتها.» كان الشيخ محروث الهذال أمير العمارات من المدعوين تلك الليلة للعشاء، وهو الوحيد بيننا في القيافة العربية، وما كان فيصل يهمل أحدا من ضيوفه، فيختار من المواضيع ما يهتم به ويرتاح إليه. - «أذكر أني كنت أشرف مرة على تموين الحملة، فجهزناها بما يلزم من الدقيق والسمن والأرز والبن والسكر والشاي، ثم طلبت شيئا من العدس، وكان الوالد - رحمه الله - يفحص كل شيء قبل الرحيل، وكان قاسيا في أحكامه، قاسيا والله، لا يريدنا إلا مثل البدو في عيشنا؛ فلا يكون لنا ما ليس لهم. فعندما جاء يفحص المونة وقف عند كيس العدس وسألني: ما هذا؟ قلت: عدس. فقال: وهل يأكل البدو العدس؟ قلت: لا. فقال: وهل أنت أحسن من البدو؟! وأمر بأن يعاد الكيس إلى بيت المال، ما أذن لنا بالعدس. ولكن المرء لا يسأل وهو في الغزو، وهذا محروث يشهد على ما أقول، كنا نأكل الخبز معجونا بالتراب - والله - ومخبوزا بالرماد، ولا نبالي. بل كنا نلتذ به كأنه الكعك بعينه.»
ثم انتقل في الحديث إلى التعليم، وقابل بين تربية أولاد المدن والتربية البدوية، وهو يأسف أن الحضر إجمالا لا يدركون معنى شظف العيش وفوائده، «فإذا قدمنا لهم الكعك قالوا هذا خبز يابس، والأنكى من ذلك أن الطلاب في المدارس لا يقبلون بغير الكعك المسمسم. تراني أتكلم بالألغاز، وما هو من شأني. من آفات التعليم اليوم عندنا في العراق أن يكون هدف الطلبة كلهم واحدا، كلهم يتعلمون ليصيروا موظفين في الحكومة، والأولاد يؤمون المدارس الأولية والهدف الواحد - الوظيفة - نصب أعينهم، هذا هو المرض في التعليم عندنا، وقد طالما فكرت في مداواته وأظنني اهتديت إلى العلاج.»
وما العلاج؟ مدرسة تؤسس في العاصمة لتجهيز الطلاب للخدمة المدنية، فتختار الحكومة الموظفين من الحاملين شهادتها، وسيكون طلاب هذه المدرسة من خريجي المدارس الثانوية في البلاد، الناجحين بالفحص الخاص لهذا الغرض، من كل لواء عدد محدود كل سنة أو سنتين.
بعد العشاء استأذن الشيخ محروث الهذال والضيوف الآخرون. وكنت أرى أن الملك تعب وعلى شيء من الاضطراب، بالرغم من أحاديثه الطريفة ومؤانسته، فنهضت أستأذن كذلك، فأومأ بيده أن اجلس فامتثلت.
بعد أن ودع الضيوف انتقلنا في الحديث من التعليم إلى السياسة، فعدنا إلى باريس ولندن، إلى عام 1927، وإلى المعاهدة المشئومة التي ماتت في المهد. وبينما كان الملك يروي آخر أخبارها، دخل الحاجب يعلمه بقدوم رئيس الوزارة السيد نوري السعيد، فاستقبله في غرفة أخرى، وعاد بعد قليل وقد تغير وجهه، عاد فرحا يتألق النور في عينه وفي محياه. وما الخبر؟! لولا ذاك الخبر، الذي جاء به نوري، لخبا نوره، لما نام فيصل تلك الليلة. وكيف ينام والجيش العراقي في خطر؟! ويكفي - وإن كان الخطر مبالغا فيه - أن تتسلح به المعارضة، وتنشط في إسقاط الحكومة.
جلس الملك ونزع السدارة عن رأسه، وهو يحمد الله، ثم أشعل سيكارة وهو يحمد الله، «ما نمت ساعة، الليلة البارحة، يا أمين، ولا الليلة السابقة.» قال هذا، وأخرج من جيبه ورقة بسطها على الطاولة، فإذا هي خارطة مرسومة بقلم الرصاص لناحية كردستان القائمة فيها الثورة. - «ها هنا قرية برزان تحيط بها الجبال، ليس من خطتنا أن نهجم هجوما مباشرا على الشيخ ورجاله، بل هي خطة التفاف، إننا نطوقهم تدريجا، ونحن خلال هذا العمل نفتح الطرق ونعبدها، وقد أسسنا مخافر عسكرية في تلك الجبال الوعرة، ومراكز حكومة في القرى التي نحتلها. إن هذا العمل، يا أخي، هو الأول من نوعه في بلاد الأكراد وفي تاريخهم.»
رسم بقلمه على الخارطة خطا وهميا يمثل نصف دائرة هي الطرق المعبدة، وفيها نقط هي مخافر الجيش ومراكز الحكومة، ثم رسم خطا آخر يبدأ في جبال عقره ويتجه شرقا ، وقال: «علينا أن نتم حركة الالتفاف من هذه الناحية، فندفع بالشيخ أحمد البرزاني إلى الشمال، فيضطر إذ ذاك أن يقبل شروطنا أو يلجأ عند الحدود إلى الأتراك.»
1
Bog aan la aqoon