وقد كتب عبد المحسن، قبيل انتحاره، كتابا إلى ابنه علي جاء فيه: «الأمة تنتظر الخدمة. الإنكليز لا يوافقون. ليس لي ظهير. العراقيون الذين يطلبون الاستقلال ضعفاء وعاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال. هم عاجزون عن تقدير أمثالي من أصحاب الشرف، يظنوني خائنا للوطن وعبدا للإنكليز. ما أعظم هذه المصيبة! أنا الفدائي لوطني الأكثر إخلاصا قد صبرت على أنواع الإهانات، وتحملت أنواع المذلات، وما ذلك إلا من أجل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي.»
ثم نصحه أن يخلص لوطنه وللملك فيصل وذريته إخلاصا مطلقا.
كان السعدون، مثل السر غلبرت كلايتون، في العقد الخامس من عمره يوم حمه القدر. ولقد فقد العراق في عبد المحسن كبيرا من السياسيين الوطنيين، وفقد الإنكليز كبيرا من أصدقائهم المخلصين. وقد خسر العراق، بل العرب، في السر غلبرت كلايتون صديقا كريما، وخسرت إنكلترا سياسيا حكيما مرنا نزيها. فلو أمد الله بأجله لما كانت على ما أظن الفاجعة، ولو أتيح للاثنين العمل معا لجرت السياسة في هذه السنة المشئومة، سنة 1929، في المجاري السهلة الصافية جريا حثيثا إلى المقر المنشود، إلى الحل المحمود.
قد قدر لها أن تجري في كل حال جريا مضطربا بطيئا مفجعا وتتجه ذلك الاتجاه، وكان الملك فيصل، والقلب منه مفعم بالغم، يدير من مركزه العالي التيار ويشرف عليه. إن لكل عاطفة سكينة تتقدمها وأخرى تلحق بها، ولكان الملك انتدب ياسين الهاشمي ليخلف السعدون لو لم ير الحكمة الراجحة في تعيين السويدي الأكبر ناجي، خلال المرحلة الجديدة، فجاءت الوزارة السويدية الثانية بعد العاطفة - مثل شقيقتها قبلها - رمز السكينة والسلامة.
رأى ناجي أن يتجنب المشاكل الكبرى ويحصر اهتمامه في تمهيد السبيل للعراق المتشوف إلى سنة 1932، للعراق المستقل المعتق من الانتداب، فشرع يشذب شجرة الموظفين البريطانيين، ليخفض ما استطاع عددهم في الوزارات وفي دوائر الحكومة الأخرى، وليفسح المجال للوطنيين فيحرزوا الخبر والعلم في إدارة شئون البلاد.
أما المندوب السامي الجديد السر فرنسيس همفريس، الذي جاء يتمم عمل السر غلبرت كلايتون، فقد باشر اهتمامه (ك1 1929) بالمعاهدة التي ستتقدم دخول العراق إلى عصبة الأمم . إن للسر فرنسيس شخصية مشرقة مقنعة غلابة، فيمكنه أن يكون صريحا دون إساءة ، قويما دون تهجم، منفذا لأمر حكومته دون شيء من التحكم، وهو يجمع بين الفكر الثاقب، الذي كان لسلفه السر غلبرت كلايتون، والعطف المتبصر الموصوف به سلفه الآخر السر برسي كوكس؛ فيرى ما دون الحقائق الواقعة، ولا يذهل عنها، ويتقدم واثبا إذا شاء، دون أن يستسلم للأهواء السياسية، بل هو الجندي السياسي الطيار الذي يجمع في شخصه مزايا الثلاثة؛ أي الشجاعة والمرونة والنظر العالي البعيد.
يعتقد المندوب السامي الجديد لزوم سياسة بريطانية جديدة في الشرق الأدنى، وهو مدرك في الوقت نفسه أن النهضات الوطنية في البلدان المختلفة تختلف في أساليبها كما تختلف في نظرها إلى الحقيقة والإصلاح. إنه لمن الحكمة إذن أن تكون السياسة البريطانية مرنة مطاطة، وهي كذلك. أما الخطة اليابسة المطردة فهي نقيض الحقيقة التي ينبغي أن تكون، في السياسة على الأقل، مرآة لوقائع الأيام.
إنها كذلك لمسألة نسبية، فقد فاز مثلا مصطفى كمال فوزا مبينا، وانهزم في مثل جهاده أمان الله. كان السر فرنسيس همفريس في كابل أثناء النهضة الأمانية والثورة عليها، وقد قال لي في حديثه عنها: «كان الوزراء ورؤساء الدين يشجعون أمان الله في عمله، ويجيئونني طالبين أن أنصح له بالاعتدال، وأنبهه إلى الأخطار المحدقة به.» إن هذا التلون من أصحاب السعادة والفضيلة لا يستغرب، وهم المشفقون على مراكزهم، المتوهمون الخسارة، إذا هم نصحوا للملك وأنذروه.
على أن السر فرنسيس لا يتسرع في الاستقراء والمقارنة، فقد تكون بغداد شقيقة لكابل، وقد يكون الأئمة والسياسيون إخوانا في كل مكان، ولكن التقاليد والبيئة وسنة الوراثة تختلف كلها في الأمم، ويختلف لذلك مفعولها في التطور الاجتماعي، وفي الانقلابات السياسية.
جاء السر فرنسيس بغداد ليكمل كما قلت عمل السر غلبرت كلايتون، ولكنه في بداءة أمره ارتطم بأمهر عقلية قانونية في العراق، وما كان مسرورا؛ فهو لا يزدري الدقائق القانونية ولا يكبرها، ما هو في القانون من أقطابه ولا من أذنابه، إنما هو رجل مفكر متعقل على طريقته التي هي طريقة الإداريين المؤسسين للأعمال والمشاريع، فهو يرى الأمور في أشكالها الجامعة ، دون أن تفوته الجزئيات المهمة فيها. وقد كان قويما صريحا بقدر ما تسمح المحادثات الأولى. أما ناجي فلم يكن على ما يظهر كذلك، فقد قال السر فرنسيس للملك فيصل مرة إن رئيس الوزارة يدور الدورات، وإنه - أي المندوب - لا يفهم غالبا ما يرمي إليه.
Bog aan la aqoon