ليت الحياة كلها فجر، وليت غيومها كلها بيضاء مطرزة بخيوط ذهبية، مثل هذه الغيوم الصغيرة الوديعة، فوق قباب الجامع الكيلاني، وهي تبدو حينا كقطيع من الغنم يلكأ في كنف الشمس متدفئا، وحينا كأمواج البحر المتكسرة على الشاطئ الضاحك بين الصخور القاتمة. وما هي إلا لحظة فيستحيل القطيع مرجا زهت ألوانه، والأمواج بحرا ساجيا طفا دره ومرجانه، وهاك الشمس بجيشها غازية فاتحة، تهدم صروح الخيال، وترفع فوق معاقل الآمال أعلام النهار الجديد، وقد باركها الوليان، عبد القادر وعيدروس، فما خوفك وما همك بعد هذا؟
إن خوفي وهمي لفي ما جاءني ذاك الصباح، دعوة لمأدبة أخرى، ولكنها هذه المرة في النادي العراقي.
وكان النادي أو مكاننا منه متألقا زاهرا، كأنه شق من فجر ذاك النهار؛ فقد مدت المائدة عند حاشية بستان من الورود والرياحين، تحت مظلات النخيل، في باحة على ضفة دجلة، أنيرت بالكهرباء وازدانت بالمصابيح الملونة.
وكان المضيف الكريم، الخفيف الروح في عرضه وقصره، رءوف الجادرجي، يرحب بالضيوف مبتسما ابتسامة هي ضياء الحب بعينه، وقد سلم الآخرون علينا سلاما بابتسام، بأعذب كلام، وبعد ذلك - بعد السلام والابتسام والكلام - وإلى أن وقفنا للوداع، خيم الجو المشئوم، وساد روح الهموم.
وأين روح البستان مطاردة مبددة، وأين للمشهد الجميل يد تعين؟ هذه وردة لقلبك أيها الفاضل، ولكن القلب ما رأى أغصان الورد المنورة، هذه نسمة من هواء المساء العليل، هواء دجلة، تنعش جناح روحك، يا صاحب المعالي، ولكن دجلة لم يكن باديا، فقد كان بيننا وبين البستان حجاب أسود كثيف، وقد كان بيننا وبين دجلة جدار قاتم من الهواجس والقلق.
إني لأذكر أولئك الأفاضل جميعا، وأكثرهم اليوم في حال تضحكهم، إذا ما عادت الذكرى، من تلك الأحوال، فمضيفنا الجادرجي الذي كان يومئذ متشرعا بلا شراع، تتقاذفه رياح السياسة وتتجاذبه رياح القانون، هو اليوم ذو مركبة مقطورة إلى كوكب من النور والذهب؛ أي شركة النفط العراقية.
وهذا رستم حيدر الكاتب الأول يومئذ في البلاط، الحامل أعباءه، العامل ليل نهار في وصل الخيوط المتقطعة بينه وبين دار الانتداب، الذائق مر ساعات ولا أمر منها كانت تنذر بالخراب، قد صار بعدئذ وزيرا ثم عين في مجلس الأعيان.
ومن ضيوف تلك المأدبة ذلك الإسرائيلي الجامع بين الأدب والنسب، ساسون حزقيل، الذي كان يدير مالية العراق بما لا يرضي غير دار الانتداب وبعض البيوت التجارية، فقد اعتزل بعد ذلك السياسة، وساح في الأرض ينشد الصحة ورحمة الله، فلقيهما معا بعد عشر سنوات في باريس.
وياسين الهاشمي الرجل القاتم غير الكاتم، العنيف الصريح، الذي كان يومئذ خارج الحظيرة، يدهش حتى المس بل بتصرفه، ويروعها بتطرفه، فقد صعد بعدئذ في الجبل فأدرك القمة منه، وتنقل في الوزارة حتى صار رئيسها، وهو اليوم زعيم المعارضة في البلاد.
أما فخري آل جميل فما كان في ذاك الحين ولا بعده جاحدا نعمة ربه، أو ضانا على الوطن بحبه؛ فقد كان يومئذ وطنيا من أصحاب الأملاك الواسعة، وهو اليوم من أصحاب الأملاك الواسعة، ومن الأعيان في المجلس.
Bog aan la aqoon