أعود بالقارئ إلى المسرح في دمشق؛ حيث الثلمة بين الحكومة والأمة كانت تزداد خطرا واتساعا. فلما انتشر خبر الأمر بتسريح الجيش، نهض جمهور من الدمشقيين يحتجون، بل نهضوا للثورة في سبيل الاستقلال، وبادروا إلى الثكنة والقلعة يطلبون الذخيرة والسلاح، فأصدرت الحكومة أمرا بتشتيتهم. وكان قد وصل إلى دمشق بعض الجنود المسرحين العائدين من ميسلون، فازدادت نار الثورة تأججا، وكانت الفوضى تنفخ فيها على الدوام، فقام بعض الرعاع يصيحون مع الثائرين ويسلبون وينهبون. جاءت كتيبة من الجند لتشتيت هذه الجموع الهائجة، فنشب بين الفريقين القتال، ووقع مئات من القتلى تحت نيران المدافع الرشاشة.
وكان يوسف العظمة لا يزال مصرا على رأيه وعزمه، أما الملك فيصل فبعد التردد والتحير، نهض يوم الجمعة يشد حقويه ويستل السيف باسم الله، وقف يومئذ في الجامع الأموي خطيبا وطفق يدعو الناس للجهاد، ويعدهم بأنه سيكون في طليعة الجيش.
ولكن وزير الحربية الباسل سبقه إلى الجهاد، فخرج بأربعمائة جندي ومائتين من الهجانة، يصحبهم ويتبعهم جيش من الأهالي والعربان يراوح عدده بين أربعة وخمسة آلاف. جاء ينجد تلك البقية المستبسلة من اللواء الأول. ولكنه وهو وزير الحربية كان يعلم أن الذخيرة والمعدات لديه لا تكفي لمعركة واحدة خطيرة؛ ففضل الشهادة على الحكمة، والموت في سبيل الوطن على الحياة في ذله.
اتخذ العظمة عقبة الطين جبهة للدفاع، ونشبت في 25 تموز نار الحرب بين الجيشين في واقعة دامية استمرت ست ساعات، واستخدم فيها الجنود الفرنسيون الطائرات والدبابات، هي واقعة ميسلون المعروفة التي أضعفت القوات العربية، وأوقعت في صفوفها عوامل التفكك والانهيار.
ووقف يوسف العظمة في مقدمة رجاله يحثهم على القتال، فأصيب برصاصة في فخذه، وأخرى في كتفه، وظل يوجه ويقاتل حتى أصابته الثالثة في رأسه فهوى إلى الأرض شهيدا. رحم الله كل من مات بطلا في سبيل الحرية والاستقلال.
في اليوم التالي دخل الجنود الفرنسيون دمشق، وكان قد غادرها الملك فيصل ومعه بعض من لا يزالون في حاشيته من بغداد.
المعركة الأخيرة
جاء في إحدى رسائل جرترود بل
1
التي كانت ترسلها إلى أمها في لندن، إنها ذهبت بمعية الأمير فيصل عندما زار طاق كسرى عقب وصوله إلى بغداد، وبينما كانا يطوفان بذلك الصرح المتداعي، الباقي من بلاط الأكاسرة، وقفت المس بل إلى جانب الأمير، بالقرب من إحدى النوافذ، وطفقت تقص عليه باللغة العربية، وهي ترسل الطرف في السهل المنبسط أمامها، قصة الفتح العربي للعراق «كما رواها الطبري في تاريخه.»
Bog aan la aqoon