ثم ذكر ما سيأتي حكايته عنه بعد ذلك. واحترز بقوله: (المطلَق) عن المقَيَّد بما يخرج الصورة التي يكون الفعل فيها مكروهًا، فلا خلاف حينئذ في عدم تناوله. وإطلاقه "المكروه" شامل للمكروه تحريمًا والمكروه تنزيهًا؛ لأنَّ النَّهي اقتضَى ترْكه، فلو أنَّ الأمر يَشمله لَكان مُقْتَضِيًا لِفعله؛ فيكون مطلوبًا فِعله وترْكه في آنٍ واحد، وهو مُحَال. وسيأتي في الأمثلة إيضاحُ ذلك.
واعْلَم أنَّ موضوع هذه القاعدة أنَّ الواحد هل يكون مأمورًا مَنْهِيًّا كما ذكرناه؟
لكن الواحد إمَّا واحد بالجنس أو النوع وإمَّا واحد بالشخص.
فالأول هل يكون منهيًّا مأمورًا باعتبار أفراده بأنْ يَكون بعضها مَنهيًّا وبعضها مأمورًا؟
قال الجمهور: نعم، كَمُطْلَق السجود واجبٌ لله وحرام لِغَيره، قال تعالى: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ [فصلت: ٣٧]. وخالف أبو هاشم فيه فيما حكاه عنه إمام الحرمين، فقال: إنَّ المحرَّم إنما هو القصد مِن السجود، لا نفس السجود (^١)؛ بناءً على أصله أنَّ النوع لا يختلف بالحسْن والقبح. والقاعدة فاسدة، فالمحرَّم القصْد والسجود معًا.
وأمَّا في فَرْدٍ مِن النوع فلا، والمخالِفُ في هذا هُم الحنفية كما سبق في كلام ابن السمعاني، وهو أَعْرَفُ؛ لأنه كان حنفيًّا، ومَثَّل لذلك بالصلاة في الأوقات المكروهة، وصوم يوم العيد والتشريق، ونحو ذلك كما سيأتي إيضاحه.
والثاني (وهو الواحد بالشخص): إنْ لم يَكن له إلَّا جهة واحدة، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممتنع إلَّا عند مَن يُجَوِّز التكليف بالمُحَال لذاته. وإنْ كان له جهتان (كالصلاة في المغصوب)، فهو مأمور به مَنْهِيٌّ عنه باعتبارين (عَلَى المُرَجَّح).
فإنْ قُلتَ: ما الفَرق بين هذا وبين ما سبق في فَرْد مِن النوع حيث امتنع أنْ يَكون مأمورًا
(^١) البرهان في أصول الفقه (١/ ٢١١).