Furashadii Carabta ee Masar
فتح العرب لمصر
Noocyada
وطلب إليه أن يرجع إلى البطريق الأكبر «سرجيوس» بالقسطنطينية ليزيل ما في نفسه من الشكوك، ولكن «صفرونيوس» لم ينثن، وانتهى المجلس إلى إقرار البدعة، ووسم من لا يقبلها بتسع سمات شائنة. والظاهر أن «قيرس» لم يكن أثناء ذلك على ما ينبغي أن يكون عليه والي السلطان من الكياسة والرحمة، وقد جاء يدعو إلى السلم والوفاق؛ فإنه كان لا يلقى من يقاومه إلا بقوة من العزيمة تدعمها قوة السلطان، في حين أن مثل تلك المشكلات الدينية في مصر لم يكن لها أن تحل إلا بالدهاء وحسن الاحتيال. على أن الذنب في الإخفاق كان ذنب كلا الفريقين؛ فقد كان «قيرس» عاتيا متكبرا، في حين كان القبط على شيء من العناد وقلة البصر، وذلك إذا نحن سلمنا بأن «قيرس» قد أوضح لهم المذهب الجديد وبين كنهه لهم؛ فإنه لم يكن ثم فرق كبير بين مذهب القبط (المونوفيسي) والمذهب الجديد (المونوثيلي) لو طرح كلاهما أمام أعين عامة الناس. حقا يجب علينا ألا ننسى أنه لا تزال إلى اليوم بين المسيحيين فرق وشيع، وكثيرا ما يكون بينها شديد العداوة وكبير الخلاف مع انعدام ما يوجب ذلك في حقيقة الأمر، ولكن القبط في ذلك الوقت قد ارتكبوا خطأ كبيرا برفضهم ما عرض عليهم من أمر توحيد المذاهب، وكان خطؤهم ذاك سببا في مصائب عظيمة تحل بهم.
وقد يرى البعض أن المذهب الجديد كان بدعة وضلالة، ولم يكن من المتيسر نشره ، ولكن مهما يكن حكمنا على هذا المذهب الذي ابتدعه هرقل وبطارقته الشرقيون الثلاثة، ومهما تكن صورته التي أطلع القبط عليها، وسواء كانوا على الحق أو على الباطل، فإنهم تلقوه بكراهة شديدة بادئ ذي بدء، فلم يطيقوا أن يخطر ببال أحد أن يغير ذرة من أصول عقيدته أو لفظا من شعار مذهبه، وعدوا ذلك خيانة لدينهم واستقلالهم بأمره، وقد كان استقلالهم في أمور الدين أكبر ما تتعلق به نفوسهم؛ فإنهم لم يعرفوا الاستقلال القومي قط،
18
ولعلهم لم يحلموا يوما بمثل ذلك الأمل، وأما الاستقلال في أمر الدين فقد ناضلوا من أجله، وجاهدوا في سبيله، لم ينثنوا عن ذلك في وقت من الأوقات منذ مجلس خلقيدونية، وكانوا حريصين على بلوغ ذلك الغرض لا تغفل عنه قلوبهم، ولا يحجمون عن بذل كل شيء في سبيله مهما عظم. ذلك هو سر حوادث تاريخهم جميعا.
ولما رأى «قيرس» أنه لم يستطع أن يستميل القبط بالخداع، ولا أن يحملهم على ما أراد برميهم بالكفر واللعنة، لجأ إلى ما هو أشد من ذلك. ولا نقدر أن ننكر أن هرقل كان شريكه فيما لجأ إليه من العسف، ولكن الإمبراطور حاول مرة أخرى بعد ذلك أن يصل إلى غرضه من توحيد المذاهب؛ فإن سرجيوس لما رأى أن الناس لم يقبلوا المذهب القائل بأن لله إرادة واحدة وفعلا واحدا ينفذها به، اقترح أن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة، وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل، وهل ذلك الفعل واحد أو مزدوج، فيرجئ القول فيها ويمنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها، ثم أرسل إلى الباب في روما وهو «هونوريوس» فأخذ منه إقرارا لهذا الحل، وإن شئت فقل إنه لم يكن حلا ولكنه كان هروبا وتخلصا من المشكلة، ثم جعل ذلك في رسالة رسمية، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي، وتقدم إلى الناس أن يعتقدوه ويتبعوه، وأمر البطريق سرجيوس حنا قائد الشرطة أن يحمل صورة من الأمر إلى «قيرس»، وأرسل معه هدية
19
صليبا له قدر عظيم من القداسة ، ولكن أثر تلك الرسالة لم يكن سوى أن زاد المعارضة والرفض، ورأى الإمبراطور أن «صفرونيوس» عدو لسعيه
20
لا يفل حده ولا تخور همته، وقد كان حاول من قبل أن يستميله أو يسكت لسانه بأن اختاره بطريق بيت المقدس، فلم يغنه ذلك شيئا. وأما القبط فقد وجدوا أن الصيغة الثانية للمذهب الجديد إذا كان فيها ما يخالف الصيغة الأولى فهي أشد منها وأكره مذاقا.
وإنه لمن أبعد الأمور أن تكون الصيغة الأولى للمذهب، أو الرسالة التي بعثت فيها الصيغة الثانية له، قد بلغت أقباط مصر في غير الإسكندرية؛ فإن ما تخلف من أخبار القبط لا أثر فيه لذكر صيغة المذهب الجديد، أو أن شيئا مثل ذلك عرض عليهم. ولعل هذا أدعى ما في الأمر للحزن والأسى؛ إذ لا يذكر في ذلك العصر كله في أثناء الاضطهاد إلا شيء واحد، وهو أن الروم كانوا يخيرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية بنصه - وهو كتاب «ليو» - وبين الجلد أو الموت، ولم يكن في عقول مؤرخي القبط إلا هذا الاعتقاد يدونونه في دواوينهم، فيلوح من ذلك أن قيرس أحس بإخفاقه في سعيه من مبدأ الأمر، وكان يود أن يحمل القبط على المذهب الذي تقرر مهما تكلف في سبيل ذلك، فلم يعبأ بعد بما أدخله الإمبراطور على هذا المذهب من التهذيب، بل كان يعرض على الناس أحد أمرين لا تعقيد فيهما، وهما قبول الدخول في الجماعة أو الاضطهاد.
Bog aan la aqoon