151

Furashadii Carabta ee Masar

فتح العرب لمصر

Noocyada

وعلى أي حال فإنه من المفيد أن نوجه الأنظار إلى اتفاق عجيب آخر يلوح من خلال ما اختلط من تواريخ ذلك العصر، ولعله يفيدنا في بيان أسباب ذلك الخلط بعض التبيين؛ وذلك أن بعض مؤرخي العرب يقرر أن فتح الإسكندرية لم يقع إلا بعد ثلاث سنين من دخول جيش عمرو في مصر، في حين أن طائفة سواهم تقول إن فتح حصن بابليون وفتح الإسكندرية وقعا كلاهما في عام واحد، وهو العام العشرون من الهجرة. ومع ما يظهر من الخلاف بين الطائفتين نقول إن كليهما على الحق؛ فقد سلم حصن بابليون في شهر أبريل من عام 641، وسلمت الإسكندرية في شهر نوفمبر من ذلك العام، وكلا التاريخين واقع في سنة عشرين. ومن جهة أخرى قد دخل عمرو في أرض مصر في عام 639 من الهجرة، ولكن جيشه لم يدخل الإسكندرية إلا بعد ثلاث سنوات من ذلك؛ أي في شهر أكتوبر من عام 642 عندما انقضت مدة الهدنة وهي أحد عشر شهرا. وإنه لمما يسر النفس أن تفوز بكشف الحقيقة من وراء هذا الغطاء من خلاف يخمرها.

وماذا عسانا نقول في هذا الصلح العجيب؟ فليس في طاقتنا أن نملك أنفسنا ونلزم القصد في القول إذا ما أردنا أن نصف فعلة المقوقس، وما أتاه ذلك البطريق من المكر السيئ، وما كان له من الصلة الغريبة بقائد للعرب، وحرصه المدهش في كل وقت من أوقات القتال مع المسلمين على أن يسرع بالإذعان والتسليم لهم؛ فليس مر الأيام بمستطيع أن يمحو عن ذكره وصمة جنايته في خيانة دولة الروم، والقصد إلى تضييع أمرها بعد أن لطخته من قبل جريرة حمقه وقسوته في اضطهاد القبط مدة أعوام عشرة. فالحق أنه لو كان منذ ولي أمر الدين قد قصر همه على هدم سلطان الروم وتضييع أمرهم في مصر لما سار إلا على سيرته تلك، ولما سلك إلا السبيل الذي سلكه. وإنه ليملؤنا العجب إذ نراه يسارع تلك المسارعة إلى اغتنام فرصة الخيانة والإيقاع بمصر، وهي فرصة ما سنحت له إلا من جرائر أفعاله، وما تهيأت إلا من عاقبة سوء حكمه. ولا يخفف من جرمه أن يقول قائل إنه كان يأتمر بأمر مولاه الإمبراطور هرقلوناس وقد خول له أن يعقد ذلك الصلح؛ فلقد كان من أهون الأشياء على مثل قيرس أن يحمل مثل هذا الملك على رأيه، وهو ملك مستضعف لا علم له بأحوال مصر، تسير به مشيئة أمه أنى شاءت.

ولم يكن صلح الإسكندرية أول العهد بخيانته، بل لنا بها عهد منذ أشهر في حصن «بابليون»، وحسبنا بما كان منه في أمر هذا الحصن ردا على من يريد الدفاع عنه بأنه إنما نزل على حكم الضرورة في الحرب؛ فإذا كان العرب عند طلوعهم على الإسكندرية قد بسطوا سلطانهم على أكثر بلاد مصر، فإن الأمر لم يكن كذلك وهم واقفون حول حصن «بابليون» في الوقت الذي أراد فيه أن يعقد معهم صلحه الذي أنكره الإمبراطور. وبعد فلم تكن الإسكندرية قد نزل بها من حرب العرب ضيق، وكانت بلاد الساحل جميعها لا تزال بمنجاة عنهم. وقد حاول جيش المسلمين أن يصدم تلك العاصمة في أول الأمر فارتد عنها عاجزا مخذولا، وقد ذكرنا من قبل أنه ليس في الأخبار ما يحملنا على الظن أن ذلك الجيش قد أقام عسكره على مقربة منها، ويدلنا على ذلك دليلان: أولهما إغفال ديوان حنا لذكر عسكر لهم هناك، وثانيهما قوله إن أهل المدينة عندما رأوا الفئة من المسلمين التي أتت لتحمل الجزية انزعجوا وثاروا، ولو كان المسلمون على مقربة بحيث يراهم أهل الإسكندرية من فوق أسوار مدينتهم كل يوم مدة شهور، كما يقول مؤرخو العرب، لما حدث مثل ذلك الانزعاج عند اقترابهم . فالحق أن مؤرخي العرب يخلطون في هذا الأمر بين تسليم الإسكندرية الأول وفتحها عنوة في المرة الثانية؛ إذ إنهم في المرة الثانية حاصروا المدينة حصارا صحيحا نوعا ما، وأما تسليمها الأول فلم تكن ثمة ضرورة من ضرورات الحرب تدعو إليه.

6

وإنا نعيد هنا ما سبق لنا قوله إن الإسكندرية كانت من المنعة بحيث لا تكاد تنالها قوة عمرو ومن جاء معه من الجنود، فكان دور أسوارها نحو تسعة أميال أو عشرة، ثلاثة منها مما يلي البحر، وأكثرها ما بقي منها تحميه الغياض والبحيرات والترعة. وإذ كان العدو لا يستطيع أن يقترب إلا من جزء يسير من تلك الأسوار، فقد كان من السهل على جند المدينة أن تجعل همها دفع حملاته على هذا الجزء. وإن العرب لو استطاعوا إسكات ما على الأسوار من المجانيق القوية المريعة، وقدروا على الاقتراب منها؛ لما أمكنهم أن يصدعوا الأسوار بما لديهم من الوسائل وما كان أقلها وأضعفها. وإنا لا نكاد نعرف في تاريخ الإسكندرية أنها أخذت مرة عنوة بغير أن يكون أخذها بخيانة من داخلها.

فمن ذلك نرى أن ذلك الصلح الذي عقده قيرس لم تكن ثمة من ضرورة في الحرب تدعو إليه، ما دامت أساطيل الروم تسيطر على البحر، والعرب بعد أبعد الناس عنه لا يمر بخاطرهم أن يتخذوا فيه قوة. قد يقول قائل إن فتح بابليون قد أوهن الروم، وإن جنودهم امتلئوا هيبة من العرب؛ إذ رأوا أنهم لم يصبروا على لقائهم في موطن من المواطن منذ ابتدأت الحرب، وإن الجيش الروماني كان لا يثق في قواده، ولا يرى منهم إلا الجبانة والعجز. وهذا كله صحيح لا شك فيه، ولكن كان في الاستطاعة تغيير الحال، بأن ترسل جنود غير تلك الجنود وقواد غير أولئك القواد، لا تزال في جنانها شدة وفي قلوبها قوة، غير أن ذلك لم يسع إليه أحد؛ فإن الدولة منذ مات عنها هرقل لم تجد حاكما يلم شعثها، ويصرف أمورها، ويحملها على سبيلها. وكان أهل الإسكندرية شيعا وطوائف، تقطع ما بينهم الأحقاد والأطماع، فما كانت تخلو من هيعة أو وثبة. وجاء بعد ذلك موت هرقل، فزاد الحال سوءا؛ إذ شطر حكومة قلب الدولة شطرين ليس بينهما إلا الشحناء والعداوة؛ فالحق أن موته «كسر شوكة الروم» كما قال المؤرخ العربي، ولكنه كسرها كسرا أبلغ مما قصده ذلك المؤرخ؛ فإن الدولة أغفلت بعده همها الأكبر، وهو الدفاع عن حياتها، فشغلتها دسائس «مرتينه» ومكائد «فلنتين»، فتركت مصر تجري في قضائها، وكانت الإسكندرية إذ ذاك قطب الحوادث يدور عليها أمر مصر ومصيرها، فلم تجد في الدولة من يأخذ بيدها، ولو وجدت نصيرا يمدها لنجت من عدوها، ولناجزته بعد ذلك على سواء حتى تخرجه من أرض مصر.

لسنا ننكر أن الروم عند فتح الإسكندرية لم يكن لهم أمل في أن يهاجموا العرب ويخرجوهم من البلاد، ولكن الإسكندرية كانت تطيق الصبر على الحصار مدة سنتين أو ثلاث ريثما يلي الأمر حاكم صلب القناة. فإذا ما كان ذلك لم يكن بالمستبعد أن تعود مصر إلى الروم، ولا يمنع من ذلك ما كان من أثر الماضي وجرائره التي أدت إلى تمكن العرب في البلاد تمكنا تصعب زلزلته؛ فالأمر لم يكن بعد قد أفلت من يد الروم إلى حيث لا يرجع إليهم. وقد كان قيرس صاحب الجريرة في ضياع مصر، لا يجديه دفاعه واعتذاره بأن الجيش كان خائر النفس، وأن الناس كانوا شيعا وفرقا لا تجتمع لهم كلمة، فما كان ينبغي النزول عن الإسكندرية، بل كان أوجب الأمور الاحتفاظ بها مهما كان في سبيل ذلك من مشقة، ولكن قيرس أسلمها للعدو خفية وعفوا بغير أن تدعوه إلى ذلك ضرورة.

ولا نزال نسائل النفس عن السبب الذي حمل أهل الإسكندرية على قبول ذلك الصلح، والمبادرة إلى الرضا عن قيرس بعد أن كانوا قد وثبوا به وأرادوا أن يحصبوه لما رأوا من خيانته؛ فقد كانوا معروفين بالنزق والتقلب في الأحوال، ولكنهم لم يكونوا صادرين عن نزق في انصرافهم عن دولتهم وصدوفهم عنها ورضائهم بالإذعان لحكم الإسلام. وليس ثمة إلا رأي واحد فوق ما سبق لنا ذكره نفسر به ما كان منهم، وذلك أنهم كانوا قد سئموا من كثرة ما أصابهم من الحدثان، وكرهوا فساد الحكم الذي أثقل كواهلهم مدة أربعين عاما، وقالوا في أنفسهم لعلنا نجد في حكم المسلمين قرارا واطمئنانا نأمن فيه على ديننا فلا نكره على شيء فيه، وعلى أموالنا فلا نتحمل من الخراج والجزية إلا قدرا نطيقه. ولعل أكبر ما حملهم على الرضا بحكم العرب رفع ما كان يبهظهم من الضرائب؛ فقد كان الروم يجبون من مصر أموالا يتعذر علينا أن نعرف مقدارها، ولكنها كانت بلا شك كثيرة الأنواع ثقيلة الوطأة شديدة الأذى؛ فأحل العرب محلها الجزية وخراج الأرض. ومهما يكن من مقدارها فقد كانت لها فضيلة البساطة، وكانت ثابتة المقدار محدودة القصد، وكانت أقل في جملتها مما كان يجبيه الروم، أو لقد خيل إلى الناس أنها كذلك. ومنذ كان شعور المصريين الوطني ضئيلا كان تأثرهم بما يمس أموالهم شديدا. ولعل ما كان الناس يتوقعونه من العرب من تخفيف حمل الضرائب كان من أكبر العوامل على فوز المسلمين في فتوحهم جميعها، وأما في الإسكندرية فلعل هذا الأمر كان أعظم الأمور أثرا.

7

على أن ما طمع فيه أهل الإسكندرية من تخفيف هذه الأحمال لم يتحقق لهم، بل خاب أملهم خيبة ما كان أمرها.

Bog aan la aqoon