Furashadii Carabta ee Masar
فتح العرب لمصر
Noocyada
15
وكان على أهل مصر فوق هذه الجزية أن يدفعوا الأموال على أرضهم وعقارهم. وأما الشرط الثالث فالأجدر بنا أن نجعله خاصا بالإسكندرية؛ فإن «قيرس» وإن كان قد صالح العرب بالنيابة عن أهل البلاد كلها، ما كان ليضمن أن ترضى بما رضيت به كل مدينة وكل طائفة، وما كان العرب ليمنعوا من قتال من قاتلهم من أهل البلاد، ولا سيما قد وقع قتال في مدة الهدنة في بعض المواضع التي لم ترض بالتسليم ففتحت عنوة.
ويلاحظ القارئ أن رواية «حنا النقيوسي» لا تذكر شيئا عن موعد حلول أول قسط من الجزية، ولا عن مواعيد ما يلي ذلك منها، ولكنه يدل دلالة واضحة على أن العرب طلبوا أول قسط منها عاجلا، ويتفق معه في ذلك المؤرخ العربي ابن خلدون إذ يذكر ذلك ذكرا صريحا.
16
والآن قد بلغنا مبلغا نستطيع معه أن ندرك ما وقع فيه مؤرخو العرب من الخلط والاختلاف عند معالجتهم مسألة يحبون الخوض فيها، وهي مسألة فتح مصر، وهل كان عنوة أو صلحا. ولا بد لنا هنا من أن نذكر أمرا وقع بالإسكندرية فيما بعد ونعجل به قبل موضعه، وهو أن الروم عادوا إليها فأخذوها بعد ثلاث سنوات أو أربع من وقت مصالحة قيرس وتسليمه للعرب، ثم فتحها العرب مرة أخرى، وكان فتحها هذه المرة عنوة لا صلحا؛ فدوننا الآن اتفاق عجيب في حوادث عدة؛ فقد أراد المقوقس أن يسلم حصن بابليون في أوان فيض النيل، وكان ذلك بعقد وعهد، فلم يرض به الإمبراطور وأبى الموافقة عليه، فبقي الحصن إلى أن هاجمه العرب، ولكن قبل أن يدخل فيه الفاتحون خرج أهل الحصن، فسلموا لهم ونزلوا على عقد وعهد، ثم سلمت الإسكندرية كذلك في أوان فيض النيل، وكان تسليمها صلحا، وذلك بغير أن تجد كيدا كبيرا من القتال، ولكن الروم عادوا إلى الاستيلاء عليها بعد أن بقيت في حكم العرب مدة، ولم يخرج الروم منها إلا بعد حصار انتهى بفتحها عنوة.
فإذا نحن راجعنا هذه الحوادث العجيبة، وذكرنا أن أول من كتب تاريخ الفتح من مؤرخي العرب كتبه بعد نحو مائتي عام منه، وإذا ذكرنا أنه من أشق الأشياء أن تبقى هذه الحوادث على حقيقة صورها، وهي صور متشابهة فيها الاتفاقات العجيبة، فتبقى مدة قرنين لا حافظ لها إلا الرواية، وأكثرها أحاديث شفوية، إذا ذكرنا ذلك لم يكن عجبنا من ذلك الخلط الذي وقع في الرواية والتشويه الذي أصابها، بل كان أعجب العجب أن نجد بقية من الحقيقة لا تزال محفوظة في نتف كثيرة من الأخبار مهما كان اضطرابها وانقطاع نظامها وصلتها؛ وذلك لأن عهدنا بكتاب العرب لا يحسنون تفهم التاريخ، ولا يدركون نظامه، ولا يعبئون بإحكام الصلة بين حوادثه. فنستطيع الآن أن ندرك السبب الذي من أجله نجد بعضهم يذكر فتح حصن بابليون صلحا وبعضهم يذكر أن فتحه إنما كان عنوة، وكذلك ندرك السبب الذي من أجله نجد مثل هذا الاختلاف في فتح الإسكندرية؛ فالواقع أن كلا من الروايتين صحيح من جانب واحد، ولكن صحتهما لا تتم إلا بعد إضافة وتعديل.
وقد رأينا من المستحسن أن نفحص روايات بعض المؤرخين من العرب الذين أتوا في أخبارهم بشيء من التفاصيل شائق لذيذ، ومن هؤلاء «البلاذري»، وهو من مؤرخي القرن التاسع؛ فإنه يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال إن عمرا اجتمع بأصحابه من زعماء المسلمين بعد أن فتح حصن بابليون عنوة، واستشارهم فيما أراده من مصالحة المصريين، ثم عقد معهم صلحا على أن يفرض دينارين على كل رجل قادر منهم، وأن يجعل على أصحاب الأرضين
17
ضريبة يؤدونها عن أرضهم، واشترط عليهم فوق ذلك أن يأتوا لكل رجل من المسلمين بكسوة كاملة كل عام، وطلب إليه الحاكم «المقوقس» أن يدخل في ذلك العهد كل بلاد مصر، ولكن أبيح لمن شاء من الروم أن يخرج من البلاد. ويقول البلاذري، وهو مخطئ في قوله، إن هذا الصلح قد نقضه الإمبراطور؛ فإنه من الواضح أن الصلح الذي يذكره هو صلح الإسكندرية. ونجد هذا المؤرخ في موضع آخر يدل على أن مصر إنما فتحت عنوة؛ فيروي أن عمرو بن العاص خطب مرة على المنبر فقال: «لقد جلست مجلسي هذا في هذا البلد وليس لأحد فيه علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت وإن شئت سبيت.» وهذه الرواية إذا صحت كانت دليلا على أن القبط لم يكن لهم من الأمر شيء، وأن العقد إنما كان بين العرب والروم. ولقد كان هذا صحيحا؛ فإن العقد كان بين الروم والعرب، على أن القبط كانوا داخلين فيه. وقد ذهب «البلاذري» إلى هذا الرأي، وجعل يدلل عليه؛ فإنه يذكر أن معاوية كتب إلى وردان يأمره بزيادة الجزية على القبط، فأجابه وردان أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لأن فيه نقضا للعهد الذي لهم. وكذلك يذكر رواية عن أحد ولد الزبير أنه قال: «لقد أقمت في مصر سبع سنوات، وتزوجت فيها، وكان الناس فيها يفرض عليهم من الأموال ما لا طاقة لهم به، فآذاهم ذلك، مع أن عمرو بن العاص كان قد عقد لهم عهدا جعل لهم فيه شروطا معلومة.» ويقول البلاذري بعد ذلك إن في الأخبار سوى ذلك ما يدل على أنه كان بين العرب والمصريين عهد، ولكنه مع ذلك لم يقدر على أن يمحو من ذهنه أن الإسكندرية لم تفتح عنوة، مع إقراره «بأن عمرو بن العاص لم يقتل أهلها ولم يسبهم، بل جعلهم أهل ذمة»، والفتح عنوة لا يتفق بحال مع جعل أهل المدينة أهل ذمة؛ فإقرار البلاذري بأن أهل الإسكندرية كانوا أهل ذمة دليل على أنه عندما ذكر فتح الإسكندرية وقال إنه كان عنوة إنما كان يقصد الفتح الثاني.
وقد جاء في كتاب الطبري ذكر شروط ذلك الصلح، وهو يسميه صلح عين شمس بدل أن يسميه صلح الإسكندرية، وذلك خلط عجيب منه،
Bog aan la aqoon