وصل الشيخ إلى المستودع وصعد على السلم حتى بلغ بابه وهو يلهث من التعب، فوجد الباب مغلقا وليس عنده أحد، فطرقه طرقا متواصلا، فلم يسمع جوابا، فتأمل في الباب وكيفية إغلاقه فرأى أنه مغلق من الخارج كعادته دائما، فبدا له أن مارية خرجت منه وأغلقته، فوقف بأعلى السلم ليستريح والتفت إلى ما حوله فأطل على مدينة شريش إلى ضفاف النهر من جهة، وعلى كرومها من جهة أخرى، والظلام يغشى بصره. على أنه رأى أنوارا على ضفة النهر من تلك الجهة عرف من بعثرتها وتعددها أنها نيران جماعة كبيرة، ولم يكن يعهد أن في تلك الجهات أناسا غير الفلاحين وعمال الحقول وهم لا يوقدون نارا على هذه الصورة، فاضطرب خاطره ونسي غياب ابنته ووقف هنيهة ينظر إلى تلك النيران، ويرى ظلالها على صفحة النهر تتلألأ كأنها مصابيح موقدة تحت الماء وأشعتها تهتز باهتزاز أمواجه، ولولا تلك الظلال لم يعرف أن تلك النيران على ضفاف النهر.
وعاد الشيخ بغتة إلى وجدانه فتذكر ابنته التي غابت، فخطر له أن تكون قد عادت إلى البيت، أو لعل أخاها قد عثر عليها أثناء رجوعه. ثم ما لبث أن سمع حركة ركض لأناس يمرون بين الدوالي، فأنصت فسمع صوت زوجته ومعها بعض أولاده فعلم أنهم جاءوا لاستطلاع خبر مارية، فناداهم فكان أول صوت سمعه منهم هو صوت زوجته وهي تقول: «أين مارية؟» فلما سمع الشيخ ذلك اقشعر بدنه وزاد اضطرابه وقال: «أين بطرس؟ هل عاد إليكم؟»
وكانت العجوز قد وصلت إلى أسفل السلم فأجابت وهي تمد يدها إلى أخمص قدمها وتخرج شوكة أصابتها في أثناء جريها: «عاد بطرس ولم يجدها.»
فنزل الشيخ عن السلم حتى التقى بزوجته ومعها عدد من أولاده فقال لهم: «يظهر لي أن مارية ضلت الطريق أثناء رجوعها من هنا، فلنتفرق ويسير كل منا في طريق حتى نلتقي في البيت، فمن يجدها منا فلينبه الباقين بالنداء حتى يكفوا عن البحث، ولتكن العلامة فيما بيننا هذه الكلمة (يامار بطرس)، أما أنا فإذا أبطأت بالرجوع فلا تقلقوا لغيابي.» فأرادت زوجته أن تعرف السبب فلم يصبر لسماع كلامها، وانحدر نحو النهر وهو يثب بين الكروم من تل إلى تل، يتعثر تارة بالعليق وطورا بالحجارة، وهو يتطلع نحو النهر مخافة أن يخطئ الجهة لاشتداد الظلام، وكان إذا توارى النهر عن عينيه وراء بعض الدوالي العالية أو وراء التلال خشي أن ينحرف عن الجهة فتبعد المسافة عليه، على أن النهر قلما كان يغيب عن بصره. فلما قرب من النهر رأى النور على ضفتيه ثم سمع جعجعة عرف أنها أصوات الجمال، وكان قد سمع مثلها في أثناء أسفاره ولم يعهد لها مثيلا في إسبانيا. فلما سمع الجعجعة تنسم رائحة العرب وأدرك أنه على مقربة منهم، وتذكر ما سمعه عن نزولهم ببلاد الأندلس؛ فتحقق أنه بجانب معسكرهم ولكنه استبعد سهولة وصولهم إلى ذلك المكان.
وبعد هنيهة وصل إلى أكمة وقف عندها وتفرس فيما بين يديه، فإذا هو مطل على سهل كبير ينتهي إلى النهر، وعلى الضفة البعيدة خيام تتخللها النيران، ورأى على الضفة القريبة في طرف السهل نارا وبالقرب منها خيمة كبيرة لم يتبين لونها لشدة الظلام. فلبث برهة يفكر في ابنته مارية حتى هم بالرجوع للبحث عنها في مكان آخر، ثم حدثته نفسه بالنزول إلى تلك الخيمة واستطلاع خبر هؤلاء القوم قبل رجوعه، ولم يخش بأسا مما علمه في أثناء أسفاره في أفريقيا والشام من عدل العرب ورفقهم بأهل البلاد التي يفتحونها، وكان قد تعلم بعض الألفاظ العربية مع غرابة تلك اللغة عنده وبعدها عن لغته، وكانت السنون قد علمته الشجاعة ورباطة الجأش، فنزل من الأكمة وسار يلتمس تلك الخيمة وهو يعجب لانفرادها هناك مع كثرة الخيام على الضفة الأخرى، فتبادر إلى ذهنه أن القوم قد وصلوا إلى النهر في ذلك المساء وأخذوا في عبوره، فأظلمت الدنيا قبل إتمام العبور فأجلوه إلى الغد.
سار الشيخ حتى دنا من الخيمة فطرق أذنه صوت ارتعدت له فرائصه بغتة واستغرابا، سمع ابنته مارية داخل الخيمة تتكلم وصوتها مختنق بالبكاء، فلم يصبر عن الوثوب نحو الخيمة وهو لا يخشى أحدا ولا يعي شيئا من فرط ما هاج من عواطفه، خوفا على ابنته، فاقترب من النار، وإذا هو بباب الخيمة، فاعترضه رجل واقف هناك وقد تقلد سيفا ورمحا، وهم بالقبض عليه وهو يقول باللغة العربية: «من أنت؟» ففهم الشيخ ما يريده، فأجابه بكلمات متقطعة أنه يريد الدخول إلى الخيمة، فاستمهله الرجل ريثما يدخل، ثم عاد وأشار إليه، فدخل الشيخ ولحيته ترتعش في وجهه، وكان على شيخوخته وبياض شعره تتجلى الصحة والنشاط في عينيه شأن أمثاله من أهل القرى والفلاحين.
بدر ويوليان
دخل الشيخ وأخذ يجيل بصره في أطراف الخيمة للبحث عن ابنته، فرآها جالسة في أحد جوانبها على الأرض، ولما وقع بصرها على أبيها، مع ضعف نور المصباح هناك، وثبت نحوه وهي تصيح: «أبي، أبي.» فاستقبلها الشيخ بين ذراعيه وقد دمعت عيناها من البغتة والفرح، ونظر إلى صدر الخيمة فإذا هناك رجل كبير الهامة عليه العمامة والجبة، فعرف أنه من البربر، وبجانبه رجل بملابس القوط لم يحدق فيه إلا قليلا حتى عرف أنه يوليان صاحب سبتة، فلم يستغرب ذلك لأنه كان قد سمع عن اتفاقه مع المسلمين على القوط، وكان يحسب ذلك إشاعة كاذبة، فلما رآه تحقق من الأمر وأيقن أن العرب غالبون لا محالة.
مرت كل هذه الخيالات في ذهن الشيخ في لحظة وهو معانق ابنته يخفف عنها، وسمع صاحب سبتة يقول له بلغة الإسبان: «لعل هذه الفتاة ابنتك؟»
قال الشيخ: «نعم يا مولاي.»
Bog aan la aqoon