90

Fath Al-Andalus

فتح الأندلس

Noocyada

«شريش» مدينة في جنوبي إسبانيا تابعة لولاية قادس، على الطريق بينها وبين أشبيلية، بينها وبين مدينة قادس 17 ميلا، وهي تقع بالقرب من نهر صغير هو وادي «ليتة»، والنهر المذكور ينبع من جبال ولاية قادس في الشمال ويسير نحو الجنوب والغرب فيترك مدينة شريش إلى يمينه ويجري حتى يصب في البحر الأطلانطي في خليج بالقرب من مدينة قادس. ومدينة شريش تقع في منبسط من الأرض بين جبلين يكتنفانها من الشرق والغرب، وبينها وبين مجرى النهر كثير من المغارس ولا سيما الكروم؛ لأن هذه المدينة مشهورة بكرومها وخمرها المعروفة باسمها «خمر شري» الشائعة في أوروبا وهي ثمينة يعتقونها ويتعاطونها على موائدهم. ومعظم ما يصدر إلى العالم من خمر شري الجيد يعصر من كروم ضواحي هذه المدينة.

وكروم شريش تشغل مسافة كبيرة من ضواحيها إلى النهر وما وراءه على أكمات مسطحة أو مائلة، وبين الكروم بيوت المزارعين وبينها أبنية غريبة الشكل، هي عبارة عن غرف كبيرة قائمة على صفوف من الأساطين الدقيقة، والغرف عالية السقوف، في جدرانها منافذ عديدة يتخللها الهواء، وهي مستودعات يختزن الكرامون خمورهم فيها لتعتيقها بمرور الأعوام.

وبجوار وادي شريش مما يلي وادي ليتة سهل سماه المقريزي «فحص شريش»، التقى فيه طارق البربري ورودريك القوطي، وفيه كانت الضربة القاضية بفتح الأندلس، وتمتع العرب بغنائمها ومحصولاتها، وهان عليهم الفتح بعد ذلك حتى طمعوا في أوروبا كلها، وكانت في غاية الاضطراب والضعف، فلو ظلوا سائرين لما لقوا من يصد سيوفهم أو يقف في سبيل نبالهم، ولكنهم أجلوا المسير فضاعت الفرصة منهم.

ففي صيف سنة 710 للميلاد؛ أي بعد الحوادث التي ذكرناها في طليطلة ببضعة أشهر، كانت مغارس الكروم في شريش وضواحيها وعلى جانبي وادي ليتة قد نضجت أعنابها، وأخذ بعض الفلاحين في قطافها، وأخذ البعض الآخر في عمل دعامات تحمل ما ثقل حمله من الدوالي لكبر العناقيد، واشتغل آخرون في إعداد المعاصر، وغيرهم في نقل بعض ما اختزنوه من خمور العام الماضي لاختزان خمر هذا العام.

ويشتغل في كل ذلك عائلات من أهل البلاد الأصليين، أو ممن قضي عليهم بالأسر في بعض الحروب فأصبحوا في مصاف العبيد، وفيهم من كان بين قومه من أهل الوجاهة، وقد صبروا على مضض الذل، وهو غير ثقيل على أهل ذلك الزمان؛ لأنه كان عادة يكابدها الجميع، لكنه لم يكن يمنع تذمر أولئك الفلاحين من تلك الحال، وأكثرهم يشكون من صاحب تاج طليطلة. على أن الرأي العام لم يكن راضيا عن رودريك لأسباب تقدم ذكر بعضها.

وكانوا من الناحية الأخرى قد سمعوا بنزول العرب إلى بلادهم عند بحر المجاز (بوغاز جبل طارق) ولم يكترثوا بنزولهم ولا علقوا عليه كثير أهمية. وكان في جملة هؤلاء شيخ طاعن في السن قضى حياته في الأسفار بإسبانيا وما يقابلها من الناحية الأخرى بأفريقيا حتى وصل إلى مصر والشام، وشاهد بعض أحوال العرب في أوائل ظهور الإسلام، فكانوا إذا ذكروا العرب بين يديه يقول: «لا ينجينا من هذا الملك إلا هؤلاء.» فلما قيل له إنهم عبروا البحر قال: «لقد قرب الفرج.»

مارية

وكان شيخنا المذكور في أواخر يوليو من ذلك العام (سنة 170)، الموافق رمضان سنة 92ه، جالسا في كوخه وحوله أولاده وأحفاده، يشتغل النساء منهم بإعداد الطعام وصناعة الألبان والجبن، والأولاد يشتغلون في علف الماشية أو صنع السلال لحمل العنب عند قطافه، ولا حديث لهم إلا تقدير موسم ذلك العام من العنب والخمر، وإن لم يكن لهم في تقديره فائدة كبرى؛ لأنه ليس ملكا لهم، فلم يكن للفلاحين ونحوهم أن يقتنوا عقارا أو يملكوا بنيانا وإنما الملك والسيادة لطبقة الأشراف، وأكثرهم من الرومانيين والقوط، وللفلاحين حصة قليلة من المحصول. ولكن الإنسان ميال للبحث عن المجهول؛ ولذا فقد اشتغل الشيخ وأولاده معظم ذلك النهار في تقدير غلة السنة حتى احتدم الجدال بينه وبين أحدهم وشغلوا بذلك عما حولهم. وكانوا جالسين في ظل دالية كبيرة قد نصبوا بأغصانها خيمة على شكل العريش، وأجروا الماء من تحتها بقناة تقف عندها الماشية للشرب، والناس للاستقاء، ويستظل بظلها أهل تلك العزبة وما فيهم غير الشيخ وأولاده وأحفاده ونساء المتزوجين منهم.

أقبل المساء وهم في ذلك، وقد رجع من كان غائبا في أثناء النهار في إصلاح الدالية أو تسنيدها، أو تنظيف المستودعات أو صنع السلال، أو نقل الأغصان اليابسة للوقود، فربما جاء الرجل وعلى رأسه سلة، وعلى كتفه حزمة، وتحت إبطه جرة، وفي جيبه صرة، وفي يده رغيف، وفي فمه لقمة يجر وراءه صبية: هذا يقود خروفا، وذاك يسوق حمارا، وذلك يحمل عنقودا قطعه قبل تمام النضج وفيه حموضة قليلة، وقد منعه أبوه عن ذلك فخبأ العنقود في جيبه وجعل يأكله خلسة، وأخوه بجانبه يهدده بالشكوى إلى أبيه إذا لم يطعمه بعضه، فيهرع هذا إلى والدته يختبئ في ثنايا ردائها وفي زعمه أن ذلك الرداء يحميه من كوارث الدهر وطوارق الحدثان، كأنما هو راية كسرى أنوشروان. تلك عيشة السذاجة الفطرية، أن يقتات المرء من ثمار ما يغرسه وألبان ما يرعاه لا مطمع له إلا أن يجمع من ذلك ما يكفي أهله بقية العام للكساء والطعام. هناك النيات السليمة والقلوب الطاهرة، هناك الإخلاص وصدق اللهجة. إذا سمعت أحدهم يقول لك إنه مشتاق لرؤيتك فهو يعني ذلك حقيقة ولا يقوله على سبيل العادة التي أساسها الخداع والتملق. والسعادة الحقيقية - إذا صح وجودها - إنما تكون في تلك المنازل الحقيرة وبين تلك المغارس التي تتجدد أوراقها في كل عام وتتجدد قلوب أهلها معها. ليس هناك ضغينة ولا حقد ولا طمع ولا نميمة ولا رياء لقلة حاجات الإنسان وسهولة نيلها؛ فالمرء إذا قلت مطالبه وهان عليه اكتسابها قلما يداخل قلبه حسد أو حقد أو غيرهما من الرذائل؛ لأن الحسد والحقد والرياء والنميمة إنما يلجأ إليها الضعيف إذا كثرت مطالبه وعجز عن الحصول عليها بجده وسعيه ... ولذلك كانت الرذائل من جملة أدران المدنية.

على أن الفلاح الساذج إنما يكون سعيدا في ظل الأمن والعدالة، وإلا فهو من أتعس خلق الله؛ لأن الظلم يقضي على سعادته قضاء مبرما ؛ إذ يسلبه ينبوع تلك السعادة وهو غلة أرضه، فكيف إذا لم يكن هو صاحب الأرض كما كان شأن فلاحي إسبانيا في الأجيال الوسطى؟ فلا يلام شيخنا المشار إليه إذا تمنى استبدال حكومته بغيرها ولو كان غريبا.

Bog aan la aqoon