120

Fath Al-Andalus

فتح الأندلس

Noocyada

وكان كلام أوباس نافذا بلا مراجعة لأنه بهرهم بما أوتي من الحمية والمروءة، فضلا عما فطر عليه من قوة العارضة؛ فأمر رودريك للحال باستقدام مرتين، وكان منفردا في إحدى غرف القصر. فلما دخل، وقف أوباس وبش له، وقال: «ليس فينا يا حضرة الأب من يجهل حق سيادة الأساقفة في شئون مملكة القوط، ولكن ولدنا الكونت كوميس رجل حرب يحب المبادرة، وغيرته على حماية هذه الدولة حملته على التسرع. وهو مصيب بالنظر إلى قوانين الحرب، ولكنني أصوب رأي حضرة الأب بالنظر إلى وجوب استشارة الأساقفة. على أني أخشى أن يتسبب ذلك في التأخير، فتفوت الفرصة ويذهب سعينا هباء. ولا أظن أن السادة الأساقفة إذا اجتمعوا واستشيروا يشيرون بغير المبادرة إلى الحرب، بل أحسبهم يلوموننا على تأخير التجنيد إلى اجتماعهم. فالذي أراه - والأمر لجلالة الملك - أن نبدأ بالتأهب للحرب ومخابرة الأطراف في حشد القوات والأموال، ونبعث إلى الأساقفة فنجمعهم ونتلو عليهم قرار هذا المجلس، أو نبعث إليهم بخلاصة أعمالنا وهم في أبرشياتهم؛ لأننا أحوج ما نكون إليهم الآن وهم هناك، وإذا أذن لي الملك قلت كلمة في هذا الشأن، والرأي راجع إليه على كل حال، وذلك أني أرى أن ينتدب قداسة الأب مرتين لينوب عن جلالته في تبليغ الأساقفة قرار هذه الجلسة، وإذا رأيتم أني أليق لهذه الخدمة قدمت نفسي لها، أو كما تشاءون.»

فلما فرغ أوباس من الكلام، لم ير مرتين سبيلا للرد عليه لعلمه أن أمر المجلس نافذ لا محالة، وقد أعجبه رأي أوباس بانتدابه للاتصال بالأساقفة ليتمكن من بث ما في نفسه إليهم، لكنه أساء الظن في ذلك الانتداب، وظن أن أوباس يريد إبعاده عن مجلس الملك أو أن يفر هو من سجنه لغرض له، وكلا الأمرين لم يرضه، فلم ير خيرا من الرضوخ لقرار المجلس، فعمد إلى المغالطة فقال، وهو يحاول كظم غيظه من تغلب أوباس على رأيه: «لا أظن حضرة الملك يسيء الظن بقصدي إذا التمست جمع الأساقفة، فإنه طلب قانوني. وأما الحرب فإنها كما قال أخي الميتروبوليت تدعو إلى العجلة، وللملك أن يبلغ الأساقفة بالطريقة التي يختارها. وأما أنا فإني أعد تلك المهمة شرفا لي، ولكنها تبعث على التطويل لما يقتضيه ذلك من الانتقال من أبرشية إلى أخرى، وكذلك انتداب حضرة الميتروبوليت، فالأنسب أن ينتدب جلالة الملك من يشاء من حاشيته ويرسلهم جميعا دفعة واحدة فيصل الخبر إلى السادة الأساقفة في وقت واحد.»

ولم يجهل أوباس ما ينطوي تحت تلك الملاينة من الكظم والحقد، ولكنه تجاهل ذلك رغبة في النتيجة، وأغضى عن كل سيئة في سبيل الوصول إليها، فأبدى استحسانه لموافقة مرتين، والتفت إلى رودريك وهو يبتسم وقال: «لقد تم الاتفاق بعون الله، فما على جلالة الملك إلا أن يتعاون مع مجلسه في التأهب للحرب ونحن في كل حالة خدم المملكة المطيعون.»

فلم يسع الملك بعد ما شاهده من مساعي أوباس في نصرته إلا أن يحترمه ويتصاغر في عيني نفسه فقال له: «بورك فيك يا أوباس.» فقطع أوباس كلامه خوفا من إثارة حسد مرتين، وحجته في قطعه أنه لا يريد أن يسمع المديح يكال له، ثم وقف وطلب إلى الملك أن يأذن له في الانصراف إلى سجنه، فقال رودريك: «امكث معنا يا أوباس فإنك نعم المشير، ودع السجون لأهلها.»

فقال أوباس: «أشكرك على ذلك، ولكنني أستأذن في الانصراف من هذه الجلسة على أن أعود بعد قليل.»

فأذن له فخرج أوباس وقد حمد الله على نجاح مسعاه فلقيه سرجيوس فقص عليه ما كان، فازداد إعجابا بتلك الصفات النبيلة، وتداولا في شئون كثيرة وعاد سرجيوس بعد بضعة أيام إلى الدير.

وكانت فلورندا تنتظر رجوعه بفارغ الصبر، فلما عاد وقص عليها ما فعله أوباس إلى آخر الحديث، أحست بانقباض في نفسها لاعتبارها ذلك مخالفا لما كانت تتوقعه من سقوط هذه الدولة على يد والدها، وما تخافه على نفسها وعليه إذا لم يفز العرب في هذه الحرب؛ فوقعت في حيرة ولكنها لم تستطع تخطئة أوباس لأن نواميس الشرف والمروءة تؤيده وتنصره، ولولا ضعف المرأة وإيثارها الانتقام لما تخيرت فلورندا غير ما أراده أوباس، ولكنها لم تكن ترى سبيلا إلى السعادة إلا بقتل رودريك ولا سيما بعد أن جاهر والدها بعدائه، فانتصار رودريك يعود بالويل والثبور عليهما. وسألت الرئيس عن ألفونس فأخبرها أنه في أستجة مع فرقة من الجند ينتظر أوامر رودريك؛ فتاقت نفسها للذهاب إليه لعلمها أنه لو كان عالما بمقامها لسعى إليها أو بعث في استقدامها، ولكنها خافت العيون والأرصاد، واستشارت الرئيس في ذلك مرة فقال لها: «امكثي عندنا ريثما نرى ماذا يكون من أمر هذه الحرب.»

السفر

قضت فلورندا في ذلك الدير بقية فصل الشتاء وكل فصل الربيع وهي تتنسم الأخبار بواسطة أجيلا وشانتيلا والرئيس، فلم تسمع إلا بانتصارات العرب ووالدها معهم، وقد دخلوا إسبانيا وأوغلوا في مقاطعة بوتيكة. وكان رودريك قد أعد جنده وتأهب للخروج معهم، فسمعت أنه برح طليطلة بنفسه ومعه العدة والرجال، واضطربت إسبانيا كلها وفيها الخائف والشامت والآسف والناقم لاختلاف الأحزاب وتضارب الأغراض كما علمت.

أما أهل دير الجبل فقد كانوا يسمعون الأخبار وهم يرون الخطر بعيدا عنهم لبعدهم عن ساحة القتال، وفلورندا قد تراكمت عليها الهواجس والمخاوف على أبيها وخطيبها، وهي لا تدري هل تسير إلى أحدهما أو كليهما، أو تبقى في الدير. وكانت ترجح بقاءها هناك راجية أن يبعث والدها فيستقدمها كما قال. فلما أقبل الصيف أصبح دير الجبل عليل النسيم، عذب الماء، نشيط الهواء وقد اكتست أوديته حلة خضراء.

Bog aan la aqoon