قال سرجيوس: «نعم، إنه رأى جند العرب ينزلون على شواطئ إسبانيا ويوليان معهم يدلهم على عورات البلاد.»
قال أوباس: «وهل علم رودريك بذلك؟»
قال سرجيوس: «نعم، جاءته الأخبار منذ أيام، فلم يعبأ بها ولا أطلع أهل مجلسه عليها، فآل ذلك إلى زيادة الخرق اتساعا، وبات رودريك في أشد الضيق وأصبح خروج الملك من يده أمرا محتوما.»
فقال أوباس: «وما سبب هذا الانقلاب؟»
قال: «لأن الكونت كوميس قائد الجند العام علم بنزول العرب إلى شواطئ إسبانيا من أناس أتوا إلى طليطلة من هناك، وثبت لديه أن رودريك أخفى ذلك الخبر عنه، فعاتبه في مجلس حضره كبار الموظفين فآلت المعاتبة إلى المنافرة، فخرج كوميس من الجلسة غاضبا من رودريك ومن قسه مرتين. وبعد انفضاض المجلس عاتب رودريك القس مرتين فتخاصما، وخرج مرتين وأقام في الكنيسة الكبرى، وهناك لقيته وفهمت منه أنه ناقم على رودريك، وساعدني - من أجل ذلك - في الوصول إليك برقعة كتبها إلى الحارس. ويرى الأب مرتين أنك لو طلبت استئناف النظر في قضيتك فلا ريب في خروجك بريئا، وعلى كل حال فإن الله قد رد كيد الظالمين في نحورهم، وهذا رودريك الذي كان بالأمس يستبد في رجل مثل أوباس أصبح وقد هجره قائد جنده وأخص أخصائه، وبات سخرية بين الناس. ألا ترى أن ذلك من تدبير العزيز الحكيم؟»
وكان سرجيوس يتكلم ويتفرس في وجه أوباس ليتبين ما يبدو عليه، وأوباس مطرق يمشط لحيته بأنامله وهو مستغرق في الأفكار، وقد قطب حاجبيه وبان الاهتمام في عينيه. فلما فرغ سرجيوس من الكلام رفع أوباس بصره إليه وهو لا يزال مستغرقا في الأفكار وجعل يحدق ببصره في وجه سرجيوس كأنه يستطلع ما في نفسه، فلم يستطع سرجيوس احتمال أشعة تينك العينين أو الصبر على التحديق فيهما وكأنهما منفذ للسيال الكهربائي المتولد في الدماغ من أعمال الفكر، فكلما زاد الدماغ عملا زاد ذلك السيال قوة. وظل كلاهما صامتا بضع دقائق، ثم تكلم أوباس قائلا: «أتستحسن الانتقام من رودريك في هذه الفرصة؟»
قال: «وهل تتوقع فرصة أثمن منها؟ إنه في أشد الضيق، أعداؤه يهددونه وأصدقاؤه يتوعدونه.»
فنهض أوباس وجعل يخطر في أرض الغرفة ذهابا وإيابا، وأنامله في لحيته يمشطها وشعر رأسه يجلل كتفيه، وقد زاده ذلك السكوت وقارا وهيبة وسرجيوس ينظر إليه ولا يتكلم. ثم وقف أوباس بغتة أمام سرجيوس، فنهض هذا وأصغى لما سيقوله أوباس فإذا هو يقول: «أمن المروءة يا سرجيوس أن نغتنم ضعف عدونا ونحمل عليه وهو في أشد الضنك؟ وهل من الحكمة والتعقل أن نساعد الغريب على القريب؟ إن رودريك مهما قيل فيه فهو منا ونحن منه، نشرب من ماء واحد، ونقرأ في كتاب واحد، ونتكلم لسانا واحدا، ونصلي صلاة واحدة، ونتناول القربان المقدس من كأس واحدة، ونجتمع في كنيسة واحدة، فكيف نغتنم ساعة ضعفه ونعين عليه أناسا لا نحن منهم ولا هم منا، ولا دينهم من ديننا ولا وطنهم وطننا؟ وزد على ذلك أن الانتقام من رودريك في هذه الفرصة يجر البلاء على كل بلاد الإسبان، إذ نخرجها من حضن دولة ربتها وعاشرتها إلى دولة جديدة لا نعرف شيئا عنها، ولا ندري ما يصير إليه أمر هذه البلاد إذا فتحها أولئك العرب، ألم يسفك أجدادنا دماءهم في فتح هذه الجزيرة واستغلالها؟ فيكف نسلم بذهابها هدرا؟ أما ما في أنفسنا من إنكار حق رودريك في الملك فإنما هو من قبيل ما يحدث من التنازع بين الأخ وأخيه أو الأب وابنه، فلا يجوز أن يستعين أحدنا على الآخر بأمة غريبة جنسا ومذهبا ووطنا. وأما ما ارتكبه رودريك من الشطط في الإساءة إلي فيكفيه من ضميره ما يعذبه، والله يتولى أمره، فنحن يا سرجيوس في موقف يقتضي أن ننبذ فيه الضغائن ونتحد على العدو المهاجم رغبة في سلامة المملكة، ويجب أن نغضي عما أساء به أحدنا إلى الآخر، وها أنا أبدأ بنفسي فأذهب إلى رودريك وأستحثه على الاتحاد في سبيل الوطن.» قال ذلك ومشى إلى رف كانت قلنسوته عليه فوضعها على رأسه، وهم بالخروج وقد ظهر التأثر في وجهه ونسي أنه في سجن ولا سبيل إلى خروجه إلا بإذن الملك.
وكان سرجيوس في أثناء ذلك الخطاب يتصاغر في عيني نفسه، فما أتى أوباس على آخر أقواله حتى اعتقد سرجيوس أنه من أحقر الناس وأن أوباس من طينة أسمى من طينة البشر، فأكب عليه وضمه إلى صدره وقبل لحيته وعارضيه، وقال له: «بورك فيك من بشر. وما أنت بشر إنما أنت ملك كريم، لقد حقرتني في عيني وجعلتني مرذولا عند نفسي، فأنا تابع لك فيما تصنعه عامل بما تأمر به.»
وكان أوباس في أثناء ذلك يلبس قلنسوته ويصلح شعره تحتها ثم مشى نحو الباب، وما إن أدركه حتى انتبه إلى أنه لا يستطيع الخروج بغير إذن الملك، فتراجع وقد خجل لذهاب ذلك من ذهنه، وتناول لوحا من ألواح الكتابة (مكسوا بالشمع) فكتب عليه ما يأتي:
Bog aan la aqoon