فلما انقضت الصلاة تفرق الجمع، فخرجت الراهبات من باب، وخرج الرهبان من باب آخر، وعاد الراهب العجوز بفلورندا وصاحبيها نحو دار الضيافة. ولاحظ، وهم خارجون، أن فلورندا أخرجت من جيبها نقودا وضعتها أسفل الأيقونة التي كانت تصلي أمامها، ورأى النقود صفراء لامعة، فاستدل من ذلك على أن الضيوف من أهل الثراء، وربما تبرعوا بمال كثير لصندوق الدير، فرافقهم إلى دار الضيافة، وهرول راجعا وهو يتوكأ على عصاه حتى وصل إلى الرئيس، وقص عليه ما كان من مقدم هؤلاء الغرباء إلى أن قال: «ويبدو من مظهرهم ولهجتهم أنهم من أهل طليطلة، ويؤيد ذلك ما رأيته من كرمهم، فهل تأذن لهم بالمثول بين يديك؟»
فقال الرئيس: «بل أرى أن أذهب أنا إليهم.»
قال ذلك ونهض وعليه رداء بسيط أيضا، ولكنه أرقى حالا من رداء الراهب البواب ، وهو عبارة عن عباءة أطول قليلا من تلك، وقد تمنطق عليها بحبل واحتذى نعلا من خشب وعلى رأسه شبه قبعة سوداء. وكان الرئيس كهلا بدينا ربع القامة، حسن الطلعة، صحيح الجسم، نير البصيرة، وكان كثير المطالعة والبحث، فصيح اللسان؛ ذلك ما رفعه إلى درجة الرئاسة وهو كهل، وتحت سيطرته عشرات من الرهبان معظمهم شيوخ مثل راهبنا العجوز. والرقي في رتب الكهنوت يغلب أن يكون عن أهلية، إذ لا تأثير هناك لدالة القرابة أو نفوذ العصبية، والكل سواء في الاغتراب والاعتزال لا يتفاضلون بميراث ولا بصنيعة، ولكل منهم نصيبه من اجتهاده وسعيه وكفايته، فإذا ارتقى راهب إلى الرئاسة أو نحوها في سن مبكرة، كان ذلك دليلا على تفوقه على رفاقه فيما يؤهله إلى تلك الرتبة. ويغلب في هذه الأحوال أن يكون السابق محسودا أو مكروها، أما رئيس دير الجبل فقد كان على العكس من ذلك لما فطر عليه من اللطف والدعة وكرم الخلق، بدليل أنه لما سئل عن مجيء أولئك الضيوف إليه فضل أن يذهب هو إليهم بنفسه تلطفا منه وتواضعا.
وكانت فلورندا حين عادت من الكنيسة جالسة على مقعد في إحدى غرف الضيافة، وقد هاجت أشجانها وتنبه ذهنها للتفكير في ألفونس، فاستغرقت في الهواجس، والعجوز إلى جانبها صامتة لا تتكلم وقد غلب عليها النعاس لفرط التعب، وشانتيلا واقف بجوار الباب ينتظر عودة الراهب، وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب. ولمغيب الشمس في الجبال هيبة ورهبة، ولا سيما حيث يقل الناس.
حديث مع الرئيس
لم تمض برهة حتى أقبل الرئيس وبيده رق كان يطالع فيه حين حدثه الراهب، فلما رآه شانتيلا تأدب في وقفته، وقد توسم فيه رجلا يعرفه أو أنه يشبه رجلا يعرفه، على أنه لم يكن يستطيع التفكير طويلا في تلك الفرصة الضيقة. فلما دنا الرئيس من دار الضيافة أشار شانتيلا إلى فلورندا أنه قد أتى، وتقدم هو حتى جثا بين يديه وتناول أنامله فقبلها، والرئيس يظهر عدم ارتياحه إلى ذلك المجد الباطل. ولما دنا من الباب خرجت فلورندا لاستقباله وجثت وقبلت يده وكذلك فعلت خالتها . وكان الرئيس عندما استقبل الفتاة لم يمعن نظره فيها على جاري العادة فيمن يتأدب من الرهبان، على أنها حين جلست بين يديه تذكر أنه رآها قبل الآن فقال لها: «هل هذه السيدة والدتك؟»
قالت: «كلا يا مولاي، بل هي خالتي.» قالت ذلك واستعاذت بالله من تلك الأسئلة، وخشيت أن يسألها عن اسمها ونسبها، ولا مندوحة لها عن الجواب الصريح لأنها تكره الكذب كرها شديدا، وودت لو يوجه الرئيس أسئلته إلى شانتيلا لأنه أقدر منها على التخلص من الصدق الصريح. على أنها تذكرت ما للناس من الثقة في جماعة الكهنة، فهم يعلنون لهم أسرارهم بالاعتراف ويقصون عليهم كل ما اقترفوه ولو كان عظيما، فهان عليها الأمر وعزمت على أن تجعل حديثها مع الرئيس من باب الاعتراف إذا رأت ما يدعو إلى ذلك.
مرت كل هذه الخواطر في ذهنها في لحظة، فلما سألها الرئيس السؤال الثاني كانت قد تهيأت للجواب فقال لها: «ومن أين أنتم قادمون؟»
فالتفتت فلورندا إليه وقالت: «إذا أذن لي حضرة السيد، تجاسرت بعبارة أرجو ألا تثقل عليه.»
قال: «كلا، قولي.»
Bog aan la aqoon