٢ - الفتوى اصطلاح شرعي معروف منذ عهد المصطفى ﷺ
يقول السائل: ما قولكم فيما يقوله بعض الكاتبين من أن اصطلاح الفتوى محدث، ولم يكن معروفًا زمن رسولنا الكريم ﵊ أو زمن الصحابة أو تابعيهم أو تابعي تابعيهم، وأن الفتوى لا يمكن اعتبارها مصطلحًا شرعيًا وأن الصحيح استعمال مصطلح الحكم الشرعي بدلًا من الفتوى، أفيدونا؟
الجواب: لا ينقضي عجبي من هؤلاء المتسلقين على حياض العلم الشرعي، ويظن هؤلاء أن كل من أمسك قلمًا صار عالمًا، وكل من استعمل الشبكة العنكبوتية صار باحثًا، هيهات هيهات.
إن كلمة الفتيا - وهي أكثر استعمالًا في كلام العرب من لفظ الفتوى وكلاهما فصيح، انظر الفتيا ومناهج الإفتاء ص ٧ – وما اشتق منها قد استعملت في كتاب الله ﷿ ووردت في السنة النبوية ووردت في كلام الصحابة والتابعين وأتباعهم بمعنى السؤال عن الحكم الشرعي فمن ذلك: قول تعالى: ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ...﴾ سورة النساء الآية ١٢٧. وقوله تعالى ﴿يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة﴾ سورة النساء الآية ١٧٦. ففي هاتين الآيتين يظهر لنا أن الله ﷿ تولى شأن الإفتاء بنفسه ﷻ، وهذا يدلنا على أهمية هذا المنصب وخطورته كما قال العلامة ابن القيم [وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات ...] إعلام الموقعين عن رب العالمين ١/١٠.
وقد تولى النبي ﷺ منصب الإفتاء بنفسه، قال العلامة ابن القيم [وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيبن عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين ﴿قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين﴾ فكانت فتاويه ﷺ جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب إتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحدٍ من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلًا وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾] إعلام الموقعين عن رب العالمين ١/١١.
وقد ورد في ذلك أحاديث عديدة منها: ما رواه البخاري بإسناده عن عروة أنه سأل عائشة ﵂ ﴿وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى﴾ قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن، قالت واستفتى الناس رسول الله ﷺ بعد ذلك، فأنزل الله ﴿ويستفتونك في النساء﴾ . وفي صحيح البخاري أيضًا (استفتى عمر ﵁ النبي ﷺ: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ) . وعن عائشة ﵂: أن أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: (إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي ...) رواه البخاري ومسلم.
وروى النسائي بإسناده عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن ﵃ تذاكروا عدة المتوفى عنها زوجها تضع عند وفاة زوجها فقال ابن عباس تعتد آخر الأجلين وقال أبو سلمة بل تحل حين تضع فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي ﷺ، فقالت وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير فاستفتت رسول الله ﷺ فأمرها أن تتزوج. وعن ابن عباس ﵁ أن سعد بن عبادة ﵁ استفتى النبي ﷺ في نذرٍ كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه أن يقضيه عنها) رواه البخاري ومسلم. وروى النسائي عن عقبة بن عامر ﵁ قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن استفتي لها رسول الله ﷺ فاستفتيت النبي ﷺ فقال لتمشي ولتركب) . وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) رواه أبو داود وابن ماجة.
وعن ثوبان ﵁ قال: (إنهم استفتوا النبي ﷺ عن ذلك - يعني الغسل من الجنابة - فقال: أما الرجل، فلينشر رأسه فليغسله، حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة، فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها) رواه أبو داود.
وفي رواية عند الإمام أحمد في المسند عن الزهري قال: قال سهل الأنصاري - وكان قد أدرك النبي ﷺ وهو ابن خمس عشرة في زمانه - حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله ﷺ رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها.
وروى مسلم عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟ فقال سنة نبيكم ﷺ وإن رغمتم) . وروى الدارمي بإسناده عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبى ليلى يقول: (لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا) . وروى الطبراني في الكبير بإسناده عن أبي صالح ذكوان، أنه سأل ابن عباس ﵄، عن بيع الذهب بالفضة، فقال: هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يدًا بيد، قال أبو صالح: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: هو حرام إلا مثلا بمثل فأخبرت أبا سعيد بما قال ابن عباس، وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد الخدري، فالتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري، فقال: ابن عباس، ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب بالفضة، تأمرهم أن يشتروه بزيادة بنقصان أو زيادة يدًا بيد، فقال ابن عباس: ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله ﷺ، وهذا زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، يقولان: سمعنا النبي ﷺ .
وورد في مسند الشافعي أن نفيعًا مكاتبًا لأم سلمة زوج النبي ﷺ استفتى زيد بن ثابت فقال إني طلقت امرأة لي حرة تطليقتين فقال زيد حرمت عليك) . والنصوص التي ورد فيها استعمال الفتيا أو الفتوى بمعنى السؤال عن الحكم الشرعي كثيرة جدًا.
إذا تقرر هذا فليس من المستغرب هذا الهجوم على الفتوى من قبل بعض الكاتبين كما جاء في كلام بعضهم أن [كلمة الفتوى في وقتنا هذا تعنى الجهل وعدم البحث وحب الخلود إلى الكسل وباقي موروث " علقها في رقبة عالم واطلع سالم ". وكما جاء في دوسية أحد الأحزاب ص ١٢٨ [... وإنه بغض النظر عن كون الفتوى أحط أنواع الفقه، وبغض النظر عن كون مجرد وجود كلمة مفتي بما لها من واقع، هي انحطاط في المجتمع ...] أقول: يتناسى هؤلاء أن منصب الإفتاء قد تولاه رب العزة والجلال كما سبق، وتولاه خير البشر ﷺ، وتولاه كبار الصحابة الكرام، ومن بعدهم كبار علماء الأمة، ويغض هؤلاء الطرف عن قوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ سورة النحل الآية ٤٣.
وخلاصة الأمر أن منزلة الإفتاء في دين الإسلام منزلة عظيمة ولخصها الإمام الشاطبي بقوله [المفتي قائم في الأمة مقام النبي ﷺ] الموافقات ٤/٢٤٤. وأن كلمة الفتيا أو الفتوى مصطلح شرعي واستعمل في كتاب الله ﷿ وفي سنة النبي ﷺ، فقد استفتي النبي ﷺ في مسائل كثيرة، واستفتي كبار الصحابة رضوان الله عليهم وكذا التابعون وأتباعهم وكبار علماء الأمة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند.
4 / 2