Fatawa al-Salah

Ibn Taymiyya d. 728 AH

Fatawa al-Salah

فتاوى الصلاة

Baare

عبد المعطى عبد المقصود محمد

Daabacaha

مكتب حميدو

الصَّلاة

لابن تيميّة

فتاوى شيخ الإسلام

ابن تيمية

في مسائل من الصلاة

جمع وترتيب وتخريج الأحاديث والتعليق

عبد المعطي عبد المقصود محمد

مكتبة حميدو

٢٦ ش النبي دانيال - إسكندرية تليفون ٤٩٠١٤٩٤

1

حقوق الطبع محفوظة

للناشر

مكتبة

حميدو
٢٦ ش النبي دانيال - إسكندرية تليفون ٤٩٠١٤٩٤

2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .

أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أعد للمؤمنين المنفذين أوامره والمقتفين أثر رسوله عليه الصلاة والسلام جنات تجرى من تحتها الأنهار قال تعالى : ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا[ النساء: ١٢٢] .

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربنا تبارك وتعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، أمر الله المؤمنين أن يطيعوه وجعل طاعته من طاعته فقال عز وجل ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا[ النساء : ٨٠ ] .

بلغ رسالة ربه وعلمهم كيف يتقربون إلى الله وبين اهم أركان الإسلام التى يقوم عليها البناء .

أولها التوحيد والتصديق ، أنه رسول الله حقا ، فبعد أن يحقق المسلم الركن الأول وهو الدخول فى الإسلام عليه أن يهتم بأهم الأركان بعد هذا الركن الركين وهو إقامة الصلاة ... إلخ .

فبعد العلم بالوحدانية ( أنه لا إله إلا الله ... ) يتوجه إلى الله بخالص الأعمال وهى إقامة الصلاة والحرص عليها فإن هذه الصلاة وأى عمل من الأعمال لا تقبل إلا إذا بنيت على أساس قويم وهو توحيد رب العالمين ، فكل عمل لا يسبقه هذا الركن الركين ، فهو إلى هباء مصداقا لقول الله عز وجل ﴿وقدمنا إلى ما

3

عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ [الفرقان : ٢٣]

فالصلاة هي أهم الأركان في الإسلام بعد الشهادتين فهي أساس الإسلام وعموده وهي الصلة بين العبد وربه وهي النور الذي يسعى به المرء في آخرته لقول الرسول عليه الصلاة والسلام «والصلاة نور» [مسلم]. وهي الفارق بين الكفر والإيمان فإنه لا خير في دين بغير صلاة لذا قال عليه الصلاة والسلام «بين الرجل والشرك ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر» [مسلم].

ولما كان هذا الركن في الإسلام - بعد التوحيد وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام - شأنه عظيم وأمره خطير فإن الكتابة فيه تحتاج إلى بيان وتوضيح استناداً على الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما صح من السنة النبوية من أقوال وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام فهو القائل «صلوا كما رأيتموني أصلي» [البخاري] فمن اقتفى أثر الرسول الكريم في كل أحواله كان اقتفاؤه له عليه الصلاة والسلام نوراً يسعى به يوم القيامة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم﴾ [الحديد: ١٢] هذا النور من آثار السجود والخضوع والإذعان لأوامر الرحمن ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ [الفتح: ٢٩].

إذًا فالصلاة هي الركن الركين وهي الصلة بين المرء ورب العالمين ولا حظ للإنسان في الإسلام إذا ضيع الصلاة وتكاسل عنها.

قال عز وجل في محكم الكتاب مبيناً أن الدخول في الإسلام يتبعه إقامة الصلاة وهي سبب الأخوة بين المؤمنين قال تعالى: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون﴾ [التوبة: ١١].

بل بين الله عز وجل أن الذين يعمرون المساجد هم المؤمنون قال تعالى: ﴿إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين﴾ [التوبة: ١٨].

فالصلاة إذا تأثر بها الإنسان نهته عن كل شيء يغضب الله عز وجل قال

4

تعالى: ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون ﴾ [ النحل : ٩٠ ] .

فالصلاة هي أساس بناء المجتمع الإسلامي وأداؤها يبعد المرء عن المعاصي والآثام فإذا تكاسل المرء عنها أو تركها هانت عليه نفسه وضعف أمام شهواته ونزواته واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله عز وجل وأورده موارد الهلاك .

قال تعالى : ﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ﴾ [ مريم : ٥٩ ] .

فالهلاك والخسران لمن ترك الصلاة أو ضيعها ولقد ذم الله المنافقين الذين لا يتأثرون بالعبادات ولا يستفيدون بالصلوات .

قال عز وجل: ﴿ إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا﴾ [النساء ١٤٢، ١٤٣ ].

ولما كان أمر الصلاة أمراً عظيما ففيها يسعد المرء بمناجاة رب العالمين .

أردت أن استخلص من فتاوى شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن تيمية ما يبصر المسلم بأهمية الصلاة في الإسلام .

فقد أردت بطبع هذه الفتاوى العظام :

أولا : تيسير طبعة ونشره بين الناس حتى يلموا بأحكام الصلاة من أحسن المصادر وأعدت وأرد من فتاوى شيخ الإسلام إلى تيمية .

ثانيا : لم ينشر للإمام كتاب عن الصلاة من قبل ، فهو بذلك يعتبر أول كتاب يطبع له في الصلاة .

فسترى في فتاويه خير ما سطر يراع عالم في أحكام الصلاة منها أن النية في العبادات [ قصد المرء فعل الشيء ] وأحكام تارك الصلاة أو الصلوات ومؤخرها ، والأحوال المانعة لوصول القضاء وما يكره في الصلوات إلى غير ذلك من فتاوى ترتاح إليها القلوب وتطمئن إليها النفوس لأنها تفى بالمطلوب وتستند إلى حجة بالغة وبرهان ساطع .

5

منهج العمل في الكتاب

أولاً: رتبت الكتاب طبقاً لأهمية الموضوعات فبدأت بالأهم فالمهم.

ثانياً: حذفت ما وجدته مكرراً وما ليس له أهمية.

ثالثاً: خرجت أحاديثه وحققتها تحقيقاً علمياً معتمداً في ذلك على كتب الحديث وفنونه.

أما الطبعات التي اعتمدت عليها في تخريج الأحاديث وتصحيحها فقد كتبناها مفصلة في الفهرس.

فإن أديت ووفيت فذلك من توفيق الله عز وجل وذاك جهد المقل وإن جانبي الصواب فذلك من التقصير الذي يغفر أمام الخير الكثير وصل اللهم على خير من اصطفى.

بقلم

عبد المعطي عبد المقصود

6

بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف بالمؤلف

هو « أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن القاسم بن تيميه » الحرانى الدمشقى الحنبلى تقى الدين ولد سنة ٦٦١ هـ وتجول أبويه إلى حران سنة ٦٦٧ هـ [ قال ابن حجر ] فى الدرر وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبى داود وحصل الأجزاء ونظر فى الرمال والفلك وتفقه وتمهر وتقدم وصنف ، ودرس وأفتى ، وفاق الأقران ، وصار عجبا فى سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع فى المنقول والمعقول والاضطلاع على مذاهب السلف والخلف أهـ .

قال الشوكانى : لا أعلم بعد ابن حزم مثله ، وما أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بما شابههما أو يقاربهما أ. هـ .

قال الذهبى : كان يفضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف التى يوردها منه . ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه . وكانت السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وكان آية من آيات الله فى التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هدى ، مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة كان قوالا بالحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم - تعتريه حدة لكن يقهرها بالحكم . ولم أر مثله فى ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه - وأنا لا أعتقد فيه عصمه بل أنا مخالف له فى مسائل أصلية وفرعية ، فإنه مع سعة علمه ، وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشراً من البشر ، تعتريه حدة فى البحث وغضبا وصدقة للخصوم ، تزرع له عداوة فى النفوس ، ولولا ذلك لكان كلمة اجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له ، وكنز ليس له نظير ، ولكن ينقمون عليه أخلاقا وأفعالا ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك [ إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام ] كان محافظا على العبادات معظما للشرائع لا يؤتى من سوء فهم ، فإن له الذكاء المفرط ، ولا

7

من قلة علم فإنه بحر ذاخر ولا كان متلاعبا بالدين ولا يتفرد بمسائل بالتشهّي ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة فله أجر على خطأه وأجران على إصابته أ. هـ.

قال ابن فضل الله حضر عنده شيخنا أبو حيان ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ومدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة:

لما أتانا تقي الدين لا لنا داع إلى الله فرد ما له وزر

على محياه سيماء الأولى صحب خير البرية نور دونه القمر

وقال: ثم دار بينهما كلام فجري ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه فقاطعه أبو حيان وصير ذلك ذنبًا لا يغتفر وسئل عن السبب قال ناظرته في شيء من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال: بل أخطأ في الكتاب ثمانين موضعًا ما تفهمها أنت فكان ذلك مقاطعتي إياه وتناوله بسوء في تفسيره البحر المحيط وكذلك في مختصر النهر وقد ترجم له جماعة (لابن تيمية) وبالغوا في الثناء عليه ورثاه كثير من الشعراء.

قال جمال الدين السرمدي: في أمالية ومن عجائب زماننا في الحفظ ابن تيمية كان يمر بالكتاب مطالعة فينقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه أو بمعناه وحكى بعضهم عنه أنه قال من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني متعنتًا ناقصته فلا يلبث أن ينقطع فأكفي مؤنته وترجم له الصفدي وسرد أسماء تصانيفه قال ومن أنفعها كتابه في (إبطال الحيل) فإنه نفيس جدًا وكتاب (المنهاج في الرد على الروافض) في غاية الحسن لولا أنه بالغ في الدفع حتى وقعت له عبارات وألفاظ فيها بعض التحامل وقد نسبه بعضهم إلى طلب الملك. لأنه كان يلهج بذكر (ابن تومرت) ونظراته فكان ذلك مولدًا لطول سجنه. وله وقائع مشهورة. وكان إذا حوقق والزم. يقول لم أر هذا وإنما أردت كذا فيذكر احتمالًا بعيدًا ولعل ذلك - والله أعلم - إنه يصرح بالحق فتأباه الأذهان وتنبوا عنه الطبائع لقصور الأفهام فيحوله إلى احتمال آخر دفعًا للفتنة، وهكذا ينبغي للعالم الكامل، أن يفعل يقول الحق كما يجب عليه ثم يدفع المفسدة، بما يمكنه وحكى عنه أنه لما وصل إليه السؤال الذي وضعه السكاكيني على لسان يهودي وهو:

8

ايا علماء الدين ذمى دينكم تحير دلوه بأعظم حجة

إذا ما قضى ربى بكفرى يزعجكم ولم يرضه منى فما وجه حيلتى إلخ

فوقف ابن تيميه على هذه الأبيات فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب فى مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشرة بيتا أولها :

سؤالك ياهذا سؤال معاند مخاصم رب العرش رب البريه

وقال ابن سيد الناس البصرى فى ترجمة ابن تيميه : أنه برز فى كل فن على ابناء جنسه ولم ير عين من رآه مثل ، ولا رأت عينه مثل نفسه وقال الذهبى مترجما له فى بعض الاجازات .

قرأ القرآن والفقه ، وناظر واستدل وهو دون البلوغ وبلغ فى العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين ، وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء فى حياة مشايخه . وتصانيفه نحو أربعة الاف كراسة وأكثر ( قال ) وأما نقله لفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلا عن المذاهب الأربعة فليس فيه نظير . وقال أنه لا يذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة وقد خالف الأئمة الأربعة فى مسائل صنف فيها وأحتج لها بالكتاب والسنة . وقد أثنى عليه جماعة من اكابر علماء عصره فمن بعدهم ، ووصفوه بالتفرد واطلقوا فى نعته عبارات ضخمة وهو حقيق بذاك .. والظاهر أنه لو سلم مما عرض له من المحن المتفرقة لأكثر أيامه المكدرة لذهنه ، المشوشة لفهمه ، لكان له من المؤلفات والاجتهادات ما لم يكن لغيره قال الصفدى وكان كثيرا ما ينشد .

تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها

وما أنصفت فهمه تشتكى أفراها إلى غير أربابها

ومما أنشد له على لسان الفقراء :

والله ما قفرنا اختيارنا وإنما فقرنا اضطرار

جماعـة كلـها كسالى وأكلنا ما له عياراً

تسمع منا إذا اجتمعنـا حقيقة كلها فشار

قال الشوكانى ومع هذا : فقد وقع له مع أهل عصره قلاقل وزلازل . وامتحن

9

مرة بعد أخرى في حياته، وجرت فتن عديدة، والناس قسمان في شأنه فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يرميه بالعظائم. وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه.

وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة، فإنه لابد أن يستنكره المقصرون، وتقع له محنة بعد محنة. ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره [وقد حصل ذلك] وهكذا حال هذا الإمام فإنه بعد موته عرف الناس مقداره واتفقت الألسن بالثناء عليه إلا من لا يعتد به [أي من شذ] وطارت مصنفاته وانتشرت مقالاته وأول ما أنكر عليه أهل عصره في شهر ربيع الأول سنة ٦٩٨ هـ أنكروا عليه شيئا من مقالاته فقام عليه الفقهاء وبحثوا معه ومنع الكلام [لا بالحجة والبرهان والإقناع ولكن بالغضب الممقوت] ثم طلب ثاني مرة سنة ٧٠٥ هـ إلى مصر فتعصب عليه بعض أركان الدول [وهو بيبرس الجاشنكير] وانتصر له ركن آخر وهو [الأمير سلار] ثم آل أمره أن حبس في خزانة الجنود مدة ثم نقل في سنة ٧٠٩ هـ إلى الإسكندرية. ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الإسكندرية ثم حضر السلطان الناصر من الكرك فأطلقه، ووصل إلى دمشق سنة ٧١٢ في آخره [عقدت له عدة مجالس فكان يقاوم خصومه إما بالردود إذا كان ذلك في صالح الدعوة وصالحه وإما بالصمت إذا وجد الخصم غبيا جاهلا من هذه المجالس].

مجلس في آخر رجب جرى فيه من ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية فليقل، حيث تكون أنت رئيسهم فظن القاضي بن صصرى أنه يعترض به فعزل نفسه ثم وصل بريد من عند السلطان إلى دمشق أن يرسلوا بصورة أخرى في سنة ٦٩٨ هـ ثم وصل مملوك النائب وأخبر بيبرس والقاضي المالكي فرمانا في الإنكار على ابن تيمية، وأن الأمر قد اشتد على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي بن صصرى وابن تيمية صحبة البريد إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصل في العشرة الأخيرة من رمضان وعقد مجلس في ثان عشر منه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال هذا عدوي، ولم يجب عن الدعوة، فكرر عليه

10

فأخبره. فحكم المالكي بحبسه فأقيم من المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه فقال يجب التضييق عليه إن لم يقتل. وإلا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب، ولقد أحسن المترجم له رحمه الله بالتصميم على عدم الإجابة عند ذلك القاضي الجريء والجاهل الغبي.

ولو وقعت منه الإجابة لم يبعد الحكم بإراقة هذا الإمام الذي سمح الزمان به وهو باسمه بخيل. ولاسيما هذا القاضي من المالكية، الذي يقال ابن مخلوف فإنه من شياطينكم المتجرئين على سفك دماء المسلمين بمجرد أكاذيب وكلمات ليس المراد بها ما يحملونها عليه، وناصيتك بقوله إن هذا الإمام قد استحق القتل وثبت لديه كفره ولا يساوي شعرة من شعراته بل لا يصلح أن يكون شسعاً لنعله وما زال هذا القاضي الشيطان يتطلب الفرص التي يتوصل بها إلى إراقة دم هذا الإمام محجبه الله عنه، وحال بينه وبينه والحمد لله رب العالمين.

ثم بعد هذا نودي بدمشق أن المنفذ عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله، خصوصاً الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم وقرأه ابن الشهاب محمود في الجامع. ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي وكان من أعظم القائمين على المترجم له الشيخ نصر المنجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب له كتاباً يعاتبه على ذلك، فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وكفره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري بيبرس الذي يفرط في محبة نصر وتعظيمه، وقام القاضي المالكي المتقدم ذكره مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة، واتفق أن قاضي الحنابلة كان قليل البضاعة فبادر إلى جانبهم في المعتقد واستكتبوا خطه بذلك. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين بن الجزري انتصر لابن تيمية وكتب في حقه محضراً بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطراً، من جملتها أنه تمتد ثلاثمائة سنة فإنه ما رأى الناس مثله. فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الجزري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأزرعي ثم لم يلبث أن عزل في السنة المقبلة وتعذر سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطاً وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع عن الحضور إليهم، واستمر على ذلك ولم يزل ابن تيمية في الجب

11

إلى أن تشفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث والعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري. ثم اجتمع جماعة من الصوفية عند تاج الدين ابن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريقة، وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم. فاقتضى الحال أن أمر تيسيره إلى الشام فتوجه على خيل البريد، وكل ذلك والقاضي زين الدين ابن مخلوف مشتغل بالمرض. وقد أشرف على الموت فبلغه سير ابن تيمية، فراسل النائب فرده من نابلس، وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين بن الصابوني وقيل أن علاء الدين القوفي شهد عليه أيضاً فاعتقل بسجن حارة الديلمبة في ثامن عشر شوال إلى آخر شهر صفر سنة ٧٠٩ هـ فنقل إليه أن جماعة يترددون إليه وإنه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية، فنقل إليها في آخر صفر وكان سفره بصحبة أمير مقدم ولم يمكن أحداً من جهته من السفر معه. وحبس ببرج شرقي. ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمتعوا منه، فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحاً، فسار الناس يدخلون عليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه، فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشيع فيه عنده فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة ٧٠٩ هـ فأكرمه وجمع القضاة فأصلح بينه وبين القاضي المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان قد تاب وسكن القاهرة، وتردد الناس إليه إلى أن توجه إلى صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزو سنة ٧١٢ هـ فوصل إلى دمشق وكانت غيبته فيها أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع كثير فرحاً بمقدمه، وكانت والدته إذ ذاك حية ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة ٧١٩ هـ بسبب قوله إن الطلاق الثلاث من دون تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة.

ثم عقد له مجلس آخر في رجب سنة ٧٢٠ هـ ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة ٧٢١ هـ ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة ٧٢٢ هـ بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين في ٢٠ من شهر ذي القعدة سنة ٧٢٨ هـ بجامع دمشق وصار يضرب به المثل لكثرة من حضر جنازته وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفاً.

12

هذا هو ابن تيميه بحر من بحور العلم الأزكياء المعدودين في العلماء والفقهاء والزهاد والأفراد الشجعان الكبار والكرماء والأجواد رحمه الله وأجزل الله له الثواب على ما قدم من خدمة الإسلام والمسلمين والله نعم المولى ونعم النصير.

١ - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيميه لمحمد بن عبد الهادي المتوفى سنة ٧٤٤ هـ تحقيق محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية.

٢ - تذكرة الحفاظ للذهبي المتوفى سنة ٧٤٨ هـ من ص ١٤٩٦ إلى ١٤٩٨ ترجمة ١١٧٥ مصور من طبعة الهند سنة ١٩٥٦.

٣ - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني الجزء الأول جـ ١ من ص ٦٣ إلى ٧٢ طبع دار المعرفة.

13

14

النية فى العبادات

سُئِلَ

عن النية في الطهارة والصلاة والصيام والحج وغير ذلك. فهل محل ذلك القلب؟ أم اللسان؟ وهل يجب أن نجهر بالنية؟ أو يستحب ذلك؟ أو قال أحد من المسلمين أن لم يفعل ذلك بطلت صلاته. أو غيرها؟ أو قال: إن صلاة الجاهر أفضل من صلاة الخافت. إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، وهل التلفظ بها واجب أم لا؟ أو قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم من أئمة المسلمين: إن لم يتلفظ بالنية بطلت صلاته؟.

وإذا كانت غير واجبة، فهل يستحب التلفظ بها؟ وما السنة التي كان عليها رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدون؟ وإذا أصر على الجهر بها معتقداً أن ذلك مشروع: فهل هو مبتدع مخالف لشريعة الإسلام؟ أم لا؟ وهل يستحق التعزير على ذلك إذا لم ينته؟ وابسطوا لنا الجواب.

فأجاب: الحمد لله. محل النية القلب دون اللسان، باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات: الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد، وغير ذلك. ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى بقلبه، لا باللفظ، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجزئ ذلك باتفاق أئمة المسلمين.

فإن النية هي من جنس القصد؛ ولهذا تقول العرب نواك الله بخير: أي قصدك بخير. وقول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه»(١) مراده ﷺ بالنية النية التي في القلب؛ دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين: الأئمة الأربعة، وغيرهم.

(١) متفق عليه لفظ البخاري: اللؤلؤ والمرجان حديث رقم ١٢٤٥ فتح الباري حديث رقم ٦٦٨٩ صحيح مسلم شرح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي حديث رقم ١٩٠٧ ص ٣ ص ١٥١٥.

15

وسبب الحديث يدل على ذلك، فإن سببه أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، فسمي مهاجر أم قيس. فخطب النبي ﷺ على المنبر، وذكر هذا الحديث. وهذا كان نيته في قلبه.

والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين؛ بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة، إذا فعل ذلك معتقداً أنه من الشرع: فهو جاهل ضال، يستحق التعزير، وإلا العقوبة على ذلك، إذا أصر على ذلك بعد تعريفه والبيان له. لا سيما إذا آذى من إلى جانبه برفع صوته، أو كرر ذلك مرة بعد مرة، فإنه يستحق التعزير البليغ على ذلك، ولم يقل أحد من المسلمين إن صلاة الجاهر بالنية أفضل من صلاة الخافت بها، سواء كان إماماً أو مأموماً، أو منفرداً.

وأما التلفظ بها سراً فلا يجب أيضاً، عند الأئمة الأربعة، وسائر أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة إن التلفظ بالنية واجب، لا في طهارة ولا في صلاة، ولا صيام، ولا حج.

ولا يجب على المصلي أن يقول بلسانه: أصلي الصبح، ولا أصلي الظهر، ولا العصر، ولا إماماً ولا مأموماً، ولا يقول بلسانه: فرضاً ولا نفلاً، ولا غير ذلك؛ بل يكفي أن تكون نيته في قلبه، والله يعلم ما في القلوب.

وكذلك نية الغسل من الجنابة والوضوء يكفي فيه نية القلب.

وكذلك نية الصيام في رمضان لا يجب على أحد أن يقول: أنا صائم غداً. باتفاق الأئمة؛ بل يكفيه نية قلبه.

والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد أن يفعله فلا بد أن ينويه، فإذا علم المسلم أن غداً من رمضان، وهو ممن يصوم رمضان، فلابد أن ينوي الصيام، فإذا علم أن غداً العيد لم ينو الصيام تلك الليلة.

وكذلك الصلاة: فإذا علم أن الصلاة القائمة صلاة الفجر، أو الظهر وهو يعلم أنه يريد أن يصلي صلاة الفجر، أو الظهر، فإنه إنما ينوي تلك الصلاة، لا يمكنه أن يعلم أنها الفجر، وينوي الظهر.

وكذلك إذا علم أنه يصلي إماماً أو مأموماً؛ فإنه لابد أن ينوي ذلك، والنية

16

تتبع العلم والاعتقاد اتباعا ضرورياً، إذا كان يعلم ما يريد « أن » يفعله ، فلابد أن ينويه . فإذا كان يعلم أنه يريد أن يصلي الظهر وقد علم أن تلك الصلاة صلاة الظهر ، امتنع أن يقصد غيرها ، ولو اعتقد أن الوقت قد خرج أجزأته صلاته ، باتفاق الأئمة ..

ولو اعتقد أنه خرج فنوى الصلاة بعد الوقت ، فتبين أنها في الوقت أجزأته الصلاة باتفاق الأئمة .

وإذا كان قصده أن يصلي على الجنازة - أي جنازة كانت - فظنها رجلا ، وكانت امرأة ، صحت صلاته بخلاف ما نوى . وإذا كان مقصوده أن لا يصلي إلا على من يعتقده فلاناً ، وصلى على من يعتقد أنه فلان ، فتبين غيره ، فإنه هنا لم يقصد الصلاة على ذلك الحاضر .

والمقصود هنا: أن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة : ولكن بعض المتأخرين خرج وجهاً في مذهب الشافعي بوجوب ذلك ، وغلطه جماهير أصحاب الشافعي ، وكان غلطه أن الشافعي قال : لابد من النطق في أولها ، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية ، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم ، وقالوا : إنما أراد النطق بالتكبير ، لا بالنية . ولكن التلفظ بها هل هو مستحب ؟ أم لا ؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء .

منهم من استحب التلفظ بها ، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وقالوا : التلفظ بها أوكد ، واستحبوا التلفظ بها في الصلاة والصيام والحج ، وغير ذلك .

ومنهم من لم يستحب التلفظ بها ، كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك ، وأحمد ، وغيرهما . وهذا هو المنصوص عن مالك ، وأحمد ، سئل تقول قبل التكبير شيئاً ؟ قال : لا .

وهذا هو الصواب فإن النبي ﷺ لم يكن يقول قبل التكبير شيئاً ، ولم يكن يتلفظ بالنية ، لا في الطهارة ، ولا في الصلاة ، ولا في الصيام ، ولا في الحج . ولا غيرها من العبادات ، ولا خلفاؤه ، ولا أمر أحداً أن يتلفظ بالنية بل قال لمن علمه الصلاة : كبر؛ كما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:

17

« كان رسول الله ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين »(٢) ولم يتلفظ قبل التكبير بنية، ولا غيرها، ولا علم ذلك أحداً من المسلمين. ولو كان ذلك مستحباً لفعله النبي ﷺ ولعلمه المسلمون.

وكذلك في الحج إنما كان يستفتح الإحرام بالتلبية، وشرع للمسلمين أن يلبوا في أول الحج. وقال ﷺ لضباعة بنت الزبير: «حجي واشترطي. فقولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلى حيث حبستني»(٣) فأمرها أن تشترط بعد التلبية.

ولم يشرع لأحد أن يقول قبل التلبية شيئاً. لا يقول: اللهم إني أريد العمرة والحج، ولا الحج والعمرة، ولا يقول: فيسره لي وتقبله مني، ولا يقول: نويتهما جميعاً، ولا يقول: أحرمت لله، ولا غير ذلك من العبادات كلها. ولا يقول قبل التلبية شيئاً، بل جعل التلبية في الحج كالتكبير في الصلاة.

وكان هو وأصحابه يقولون: فلان أهل بالحج، أهل بالعمرة؛ أو أهل بهما جميعاً. كما يقال كبر للصلاة، والإهلال رفع الصوت بالتلبية وكان يقول في تلبيته: «لبيك حجاً وعمرة» ينوي ما يريد [أن] يفعله بعد التلبية؛ لا قبلها.

وجميع ما أحدثه الناس من التلفظ بالنية قبل التكبير، وقبل التلبية، وفي الطهارة، وسائر العبادات فهي من البدع التي لم يشرعها رسول الله ﷺ. وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول الله ﷺ فهي بدعة بل كان ﷺ يداوم في العبادات على تركها، ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين: من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب، أي يكون فعله خير من تركه، مع أن النبي ﷺ لم يكن يفعله البتة، فيبقى حقيقة هذا القول، إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول الله ﷺ.

(٢) رواه مسلم حديث ٤٩٨ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي والحديث وإن تكلم فيه من ناحية أبي الجوزاء فله شواهد من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها من حديث أنس رضي الله عنه رقم ٢٢٥ اللؤلؤ والمرجان نجعله صحيح لغيره.

(٣) متفق عليه لفظ البخاري حديث ٧٥٤ اللؤلؤ والمرجان من حديث عائشة رضي الله عنها وكانت ضباعة تحت المقداد بن الأسود.

18

وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإِحرام قبل الميقات، فقال: «أخاف عليك الفتنة»، فقال له السائل: أي فتنة في ذلك؟ وإنما زيادة أميال في طاعة الله عز وجل. قال: وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول الله ﷺ».

وقد ثبت في الصحيحين أنه قال:«من رغب عن سنتي فليس مني»(٤) فأي من ظن أن سنة أفضل من سنتي، فرغب عما سننته معتقداً أنما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني؛ لأن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ﷺ، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة.

فمن قال: إن هدي غير محمد ﷺ أفضل من هدي محمد فهو مفتون؛ بل ضال قال الله تعالى - إجلالاً له وتثبيت حجته على الناس كافة - ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾(٥) أي: وجيع.

وهو ﷺ قد أمر المسلمين باتباعه، وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه، واستحباب ما أحبه. وأنه لا أفضل من ذلك. فمن لم يعتقد هذا فقد عصى أمره. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «هلك المتنطعون - قالها ثلاثاً -» أي المشددون في غير موضع التشديد، وقال أبي بن كعب، وابن مسعود، اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.

ولا يحتج محتج بجمع التراويح، ويقول: «نعمت البدعة هذه» فإنها بدعة في اللغة، لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول الله ﷺ مثل هذه، وهي سنة من الشريعة. وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ومصر الأمصار كالكوفة والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، وغير ذلك. فقيام رمضان سنة رسول الله ﷺ لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهد رسول الله ﷺ يصلون جماعة وفرادى، لكن لم يداوم على جماعة واحدة لئلا يفترض عليهم، فلما مات ﷺ استقرت الشريعة.

(٤) هذا طرف من الحديث الطويل في الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فسأقوم الليل كله، وقال الثاني: سأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء متفق عليه لفظ البخاري من حديث أنس رقم ٨٨٥ اللؤلؤ والمرجان.

(٥) سورة النور آية ٦٣.

19

فلما كان عمر - رضي الله عنه - جمعهم على إمام واحد، والذي جمعهم أبي ابن كعب، جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعمر هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» يعني الأضراس؛ لأنها أعظم في القوة.

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه قال: «صلاة السفر ركعتان(٦) فمن خالف السنة كفر»(٧) فأي من اعتقد أن الركعتين في السفر لا تجزئ المسافر كفر.

والوجه الثاني: من حيث المداومة على خلاف ما دوام عليه رسول الله ﷺ في العبادات؛ فإن هذا بدعة باتفاق الأئمة، وإن ظن الظان أن في زيادته خيراً كما أحدثه بعض المتقدمين من الأذان والإقامة في العيدين، فنهوا عن ذلك، وكرهه أئمة المسلمين، كما لو صلى عقيب السعي ركعتين قياساً على ركعتي الطواف، وقد استحب ذلك بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي. واستحب بعض المتأخرين من أصحاب أحمد في الحاج إذا دخل المسجد الحرام أن يستفتح بتحية المسجد، فخالفوا الأئمة والسنة، وإنما السنة أن يستفتح المحرم بالطواف كما فعل النبي ﷺ لما دخل المسجد؛ بخلاف المقيم الذي يريد الصلاة فيه دون الطواف، فهذا إذا صلى تحية المسجد فحسن.

وفي الجملة: فإن النبي ﷺ قد أكمل الله له ولأمته الدين، وأتم به ﷺ عليهم النعمة، فمن جعل عملاً واجباً ما لم يوجبه الله ورسوله، أو لم يكرهه الله ورسوله، فهو غالط.

فجماع أئمة الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ومن خرج عن هذا وهذا فقد دخل في حرب من الله،

(٦) رواه مسلم من قول ابن عمر قال: «صحبت رسول الله ﷺ في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله» حديث رقم ٦٨٩ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.

(٧) قوله «فمن خالف السنة فقد كفر» ليست في صحيح مسلم، بل أخرجها الطبراني في الكبير «صلاة السفر ركعتان فمن خالف السنة فقد كفر» سبل السلام للصنعاني جـ ٢ ص ٣٧ طبعة بيروت.

20