فمضى خفيف وما عتم أن عاد ومعه جوهر. وهو كهل في السادسة والخمسين من عمره وقد وخطه الشيب، وكان طويل القامة ثابت الجأش عظيم الهيبة. وكان لما جاءه رسول المعز قد ذهب إلى فراشه فنهض وارتدى ثيابه وبادر إلى ملاقاة مولاه. فلما شعر المعز بقدومه تحفز للنهوض ورحب به وبش له فخجل جوهر من ذلك الإكرام فأكب على يدي الخليفة فقبلهما وقبل ركبتيه وأوشك أن يقبل قدميه فأنهضه المعز ودعاه للجلوس بجانبه فجلس متأدبا فبادره المعز قائلا: «مرحبا بقائدنا الحازم وحبيبنا الباسل.»
فتأدب جوهر وقال: «إني عبد مولانا أمير المؤمنين ضارب بسيفه وأفديه بروحي.»
قال: «بل أنت سيفنا المسلول وحامى دولتنا وإني لا أجلس إلى هذه البركة وأرى السمك يسبح فيها إلا ذكرت بلاءك في سبيل الحق. إن هذا السمك يشهد بما لك من الأفضال على هذه الدولة أليست هذه الأسماك من نسل ما حملته إلينا من سمك البحر المحيط في القلل يوم جردت وفتحت أفريقية وأخضعت قبائلها. لا أنسى يوم جئتنا بتلك القلل وفيها السمك من ذلك البحر العظيم إشارة إلى ما أدركته من تلك الفتوح العظيمة التي لم يسبق إليها سواك فلا غرو إذا اختصصتك بصداقتي وفضلتك على سائر بطانتي وأهلي ...»
فخجل جوهر من هذا الإطراء وقال: «العفو يا مولاي إني لم أفعل شيئا إلا باسمك. والله إنما نصرني بك؛ لأنك سلالة أحق الناس بالخلافة ابن عم الرسول
صلى الله عليه وسلم
وصهره، أنت ابن فاطمة الزهراء فكيف لا ينصرك الله ولو قام بهذه الدعوة غلام لأفلح؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.»
فأسكته المعز قائلا: «إن الحق لا يعلو دائما، وكم ظل أجدادي العلويون يجاهدون وقد ذاقوا أنواع العذاب ممن استأثر بالسيادة دونهم. ولو أتيح لهم سيف مثل سيفك لغلبوا، ألم تفتح هذه البلاد من هنا إلى البحر المحيط وأخضعت أهلها - بارك الله فيك - وهذا ما لا ريب فيه فإذا رفعنا منزلتك فقد أعطيناك حقك.» وسكت وقد بدا الاهتمام في وجهه وجوهر ينتظر ما يبدو منه لاعتقاده أنه لم يدعه في تلك الساعة إلا لأمر هام. فاعتدل في مجلسه وتوجه بكليته نحوه كأنه يستفهم عما يريده.
أما المعز فمد يده واستخرج من تحت العباءة قضيبا من عود طوله شبر ونصف مكسو بالذهب. فلما رآه جوهر علم أنه قضيب الملك فتأدب احتراما له فابتدره المعز قائلا: «أليس هذا قضيب الملك يا جوهر؟»
قال: «نعم يا مولاي إنه قضيب الحق وصاحبه صاحب الخلافة الحقة.»
قال: «هل يكون في الدنيا خليفتان على حق؟»
Bog aan la aqoon