قال: «ذلك ما أقترحته عليك فقل.»
الفصل السادس عشر
سيرة صاحب الشريعة الإسلامية
فأسند أبو سفيان كوعيه على ركبتيه ليستريح في جلوسه وإلتفت إلى من حوله فإذا هو محاط بجماعة كبيرة من البطاركة والأمراء والقواد فعلم أنه يقص حكايته على أعظم رجال الروم والترجمان يترجم كلامه للحضور إلا من كان عارفا العربية منهم كالحارث وعبد الله فقال: «اعلم أيها الملك أبيت اللعن أن محمدا صاحب هذه الدعوة الذي توصل إلى مخاطبة جلالتكم قد ربي يتيم الأبوين صفر اليدين على أنه من أصل عريق في الشرف والسؤدد من قبيلة قريش التي أنا منها ويتصل نسبنا بعدنان ونسب عدنان يتصل بإسماعيل بن إبراهيم فنحن من أشرف العرب نسبا وأطيبهم طينة. وكان جدنا إسماعيل قد بني لنا بيتا تحج إليه الناس من أقطار العالم اسمه الكعبة بناه في مكة بالحجاز وهي مسقط رأسي ومحل إقامتي ومركز تجارتي ومقام أهلي.
وكانت ولاية هذا البيت تارة في قريش وطورا في سواهم حتى اغتصبها منهم منذ قرنين أو أكثر بنو خزاعة وهم قبيلة من عرب اليمن القحطانية إذ لا يخفى على مولاي القيصر أن العرب كافة يرجعون في أنسابهم إلى أبوين هما: (1) اسماعيل الذي قدمت ذكره ومنه قبيلتنا وسائر قبائل الحجاز (2) قحطان ومنه بنو حمير وسائر قبائل اليمن. ولم تستطع خزاعة الاستبداد بولاية الكعبة إلا لما كان من تفرق أمر قريش وضعفهم حتى ظهر جدنا قصي فبذل الدم والمال حتى ظهر على خزاعة واسترجع ولاية البيت إلى قريش وتولى هو كل أعمال الكعبة وهي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء.»
فلم يستطع الترجمان فهم هذه الألفاظ وأشكل عليه تفسيرها فقال هرقل: «أفهمنا ما معنى هذه الأعمال.»
فقال أبو سفيان: «أعلم يا سيدي أن مكة لا حكومة فيها مستقلة كحكومة جلالتكم بل هي مكان عبادة لأن الكعبة حج يزوره الناس كما يزور النصارى ديرا من الديور ولكنها أعظم من ذلك كثيرا فمن تولى أعمالها كانت إليه حكومة مكة وولاية أمرها على نسبة ما يتولى من تلك الأعمال فمن تولى الحجابة كانت له حجابة الكعبة أي أن مفاتيحها تكون بيده يفتحها لمن أراد ويمنعها ممن أراد وأما السقاية فهي أن في داخل الكعبة بئرا قديمة يقال لها بئر زمزم احتفرها جدنا اسماعيل فمن يتولى السقاية تكون تلك البئر في عهدته يسقي الحجاج منها. أما الرفادة فهي خرج أو مال تدفعه قريش إلى من يتولى الرفادة فيصنع منه طعاما للحجاج الذين يزورون الكعبة من أقطار الأرض لأنهم ضيوف عليه وأما اللواء فهو العلم الذي يعقدونه للحرب وصاحب اللواء يعقد الألوية للجند الذاهبين إلى القتال وهو بمنزلة قائد الجند عندكم. أما الندوة فهي مجلس القضاء ولها بيت في الكعبة يجتمع فيه رجال قريش للمشورة والمداولة وصاحب هذه الدار هو صاحب الشورى والرأى وإليه يرجع الأمر. ففي الأمور الخمسة تجتمع السلطة المطلقة لمن يتولاها للدين والدنيا فيكون القضاء والجند والكعبة والمال في قبضته فقد حاز جدنا قصي شرف مكة كله وقطع مكة أربعا بين قومه وبه اجتمعت كلمة قبيلتنا وعادت إليها سطوتها وعلا نجم سعدها فتيمنت بأمره حتى صارت لا تزوج امرأة لرجل من قريش إلا في داره ولا يتشاورن في أمر نزل بهم أو يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره يعقدها لهم بعض ولده ولا تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع إلا في داره يشق عليها فيها درعها. وجملة القول كان أمره في قومه من قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره.
وكان لقصي هذا أربعة أولاد وهم عبد الدار وعبد مناف جدنا وعبد العزى وعبد فلما شاخ قصي كان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وعظم أمره وكذلك عبد العزى وعبد فأراد قصي أن يشرف عبد الدار وكان بكره فدعاه إليه وأوصى له بمناصب الكعبة الخمسة المتقدم ذكرها فصار شرف مكة كله إلى عبد الدار وبنيه من بعده.
فخلف عبد الدار أولادا وخلف عبد مناف أولادا آخرين وهم عبد شمس وهاشم وعبد المطلب ونوفل وكانوا رجالا أشداء وعبد شمس هو جدي فغبط بنو عبد مناف بني عمهم عبد الدار على ما في أيديهم من أمر الكعبة ونازعوهم عليه حتى كاد يفضي أمرهم إلى الحرب ثم تداعوا إلى الصلح واقتسموا ذلك الشرف فيما بينهم فأعطيت السقاية والرفادة إلى بني عبد مناف وأعطيت الحجابة واللواء والندوة إلى بني عبد الدار وتم الصلح على ذلك وانحسم الخلاف. ولا تظنوا أني أطلت الكلام على غير طائل أو أني دخلت فيما لم أسأل عنه فإن لما قلته علاقة كبرى فيما سألتمونى عنه.
فتولى السقاية والرفادة أولا عبد شمس ولكنه كان كثير الأسفار لا يقيم في مكة إلا قليلا فعهد بهما إلى أخيه هاشم وهاشم هو جد محمد الذي تسألونني عنه أي أبو جده ثم مات هاشم فوليهما أخوه المطلب وكان سمحا سمته قريش الفيض لسماحته.
Bog aan la aqoon