فضحك ثعلبة وقال: «هذه دعوى فاسدة ولو كان والدي الحارث هنا الآن لأثبت نسبة هذا الخاتم إلى النعمان ملك العراق لأنه شاهد ختمه على كتبه مرارا وعلى كل فإنك ستبقى في السجن حتى تعترف بالحقيقة وإلا فأنت مقتول شر قتلة.»
قال عبد الله: «افعل ما بدا لك فما أنا ممن يخافون القتل لأني برئ.»
قال: «سترى عاقبة وقاحتك هذه عندما يأتى بابنك الغلام الغر ونريك خيانته رأى العين.»
ثم إلتفت ثعلبة إلى الحراس الأربعة وكانوا لا يزالون وقوفا على الباب وقال: «خذوه بعد أمر البطريق (القائد رومانوس) إلى برج القلعة وأبقوه مخفورا ريثما ننظر في أمره.»
وكان لقلعة بصرى برج متشامخ يستحيل الفرار منه لأن المسجون إذا حاول الفرار لا طريق له إلا النافذة فإذا وثب منها لا يدرك الأرض إلا ميتا.
فصعدوا به طابقين آخرين وأدخلوه البرج وهو غرفة صغيرة ذات نافذتين وباب صغير فاقفلوا الباب عليه وتركوه وشأنه فلما خلا بنفسه أخذ يتأمل في ما مر به في الليل الماضي وذاك الصباح ويراجع ما سمعه عن ابنه فلم يفهم معنى اتهامه باللصوصية ولكنه شكر الله لوقوعه هو ونجاة حماد لأنه ما زال متحققا تخلصه من تلك الشراك على أن ظهور ذلك الخاتم عرقل مساعيه ولبث برهة يفكر ثم نهض إلى نافذة البرج الشرقية فأشرف منها على مدينة بصرى كلها بناياتها وشوارعها وأسوارها وحولها الأحواض المائية الكبيرة وأشعة الشمس تنعكس عن أسطحتها وكان الجو صافيا فنظر إلى ما وراء ذلك فشاهد في عرض الأفق جبلا عليه بناء يكاد البعد يحجبه عن نظره ولكنه عرف أنه قلعة سرخد (صلخد) الشهيرة وبينها وبين بصرى طريق حجري على استقامة واحدة مرصف بالحجارة الضخمة كسائر الشوارع الرومانية الكبرى وخيل له أن بصرى وضواحيها حديقة يانعة في وسط صحراء قاحلة لأن بلاد حوران جبلية جرداء غبراء اللون.
وتحول من هناك إلى نافذة جنوبية فأشرف على أرض أكثر خصبا من تلك يتراءى فيها عن بعد قرية أم الجمال لا يتميز شيء من أبنيتها لبعدها فتذكر حمادا ومسيره إلى عمان فقال في نفسه (لعله الآن يقرب ذلك المكان مع سلمان). ثم هاجت به هواجسه وتذكر ما مر به منذ شبوبته وخاف أن يقتل قبل أن يبوح لحماد بسره وقد كتمه عنه وعن سائر أهل الأرض نيفا وعشرين سنة فتراكمت عليه الهواجس حتى نسي موقفه وما هو فيه من الخطر الشديد.
فقضى نهاره في مثل ذلك فجاؤوه ببعض الطعام فلم يتناول منه شيئا وبات تلك الليلة وعاد في صباح اليوم التالي إلى النافذة فحدثته نفسه أن يثب من ذلك البرج لعله ينجو فنظر إلى أسفله فإذا هناك هوة عميقة لا يمكن أن يصل إلى قاعها حيا فصبر نفسه ينتظر ما يجيء به القدر.
وفى اليوم الثالث أفاق على أصوات النواقيس من الأديرة والكنائس فأطل من النافذة المشرفة على المدينة فرأى الناس في هرج ومرج وقد زينت الشوارع بسعف النخل وأغصان الزيتون وخرج الناس زرافات ووحدانا يحملون الشموع وأغصان الزيتون يأمون الديور والكنائس وفيهم الرجال والنساء وأولادهم بين أيديهم يحملون الأزهار والشموع وقد تربوا بأحسن ما لديهم من اللباس وأنواع الزينة فعرف أنه يوم أحد الشعانين والناس يحتفلون به على جاري العادة فهاجت هواجسه وتذكر حمادا وموعده بنذره فعظم عليه الأمر واشتد به ذلك حتى بكى ولكنه ما لبث أن عاد إلى صوابه وتجلد تجلد الرجال المحنكين الذين خبروا الدهر وعرفوا تقلبات الزمان فقال في نفسه (إن الدهر لا يستقر على حال فلا بد لهذه الأزمة من إنفراج).
فقضى ذلك اليوم وبضعة أيام أخرى لا يأكل إلا قليلا وقد هدأ روعه وجعل يفكر في وسيلة ينجو بها من تلك الورطة وهو في كل ذلك يحمد الله لنجاة حماد من ذلك لأنه لا يصبر على الأذى ولا تعود مشاق الزمان وكوارث الحدثان. ففي ذات صباح جاءه الحراس وأمروه بالنزول إلى المجلس فنزل وقد استعد للدفاع فلما وقف بين يدي رومانوس وثعلبة قال له هذا: «كيف ترى نفسك.»
Bog aan la aqoon