قالت: «أظن ثعلبة قادما للدير فلعله علم باجتماعنا فجاء يريد بنا سوءا فالأولى أن نفترق لئلا نفتح بابا للكلام.»
وما أتمت كلامها حتى دخل عليهما رجل عليه ملابس الباعة ببصرى ومد يده فألقى قطعة من الحلي في جيب حماد ثم استخرجها مدعيا أنها كانت في جيبه وإن حمادا كان قد سرقها فتناولها الرجل وقال: «هذه الأساور لي فمن أين جئت بها أنها مسروقة من مخزني.» فلم يجبه حماد ولكنه صفعه على وجهه فقلبه على قفاه خارج الغرفة وإذا بجماعة من جند بصرى قد هموا بحماد فأمسكه أحدهم بذراعه وقال له: «انك سارق» فنفر حماد منه وصاح به قائلا: «اخسأ يا كلب العرب» وصاحت بهم هند: «دعوه» فهمس هو في أذنها: «احذري أن تخبريهم من أنت لئلا يفتضح أمرنا» فتجمهروا حوله وهموا بالقبض عليه ثم سمعوا صوتا يقول: «امسكوا هذا اللص وائتوني به حيا أو ميتا إنه جاسوس ذميم.» فعرف حماد صوت ثعلبة فخرج نحو الصوت والجند يفرون من أمامه ويتفرقون حوله ولم يستطع أحد القبض عليه فصاح به: «تقدم أنت يا جبان لنرى من هو الخائن.» واستل حماد خنجره وهجم على الجموع يبحث عن ثعلبة فلم يعرفه بينهم فاعترضه أحدهم وهم بالقبض عليه فطعنه حماد طعنة أصابت كتفه فصاح من شدة الألم فتفرق الناس فأراد حماد الفرار خوف الفضيحة فتذكر هندا فخاف أن يفتك بها ذلك الخائن فعاد إليها وقال لها: «انجي بنفسك لئلا نقع كلانا وفى وقوعك عار علينا.» فقالت: «حاشا لي أن أتركك بين أيدي هؤلاء اللئام والله لن يظفروا منك بطائل.» وهمت بأحدهم فاستلت حسامه وهجمت على الجند وكانوا عديدين فتفرقوا أيدي سبا فقالت: «خسئ الأنذال هلم إلى.» وخرجا معا والليل قد سدل نقابه فأسرعا إلى فرسيهما فركباهما وسارا.
وكان ثعلبة قد بات تلك الليلة في صرح الغدير كما قدمنا فقضى ليلته هاجسا في أمر حماد وما ناله من السبق في ذلك اليوم وكيف تظاهرت ابنة عمه بميلها إليه واستخفافها بثعلبة وكان كلما تصور هندا تلبس حمادا الدرع والناس يرتلون وينشدون انقدت نيران الغيرة والحسد في صدره وهاجت فيه حاسة الغدر وشعر بميل نحو هند حتى أصبح شديد الرغبة في خطبتها بعد أن كان يترفع عنها وكل ذلك من عوامل الحسد فإن الرجل قد يرى فتاة فلا يعتد بها ولا يظن بها نفعا فإذا سابقه إليها أحد وآنس منها ميلا إلى هذا واستخفافا به حسنت في عينيه وخصوصا إذا وقع بينهما تناظر أو تسابق فكان ثعلبة يتوقع من خطبته هندا انتقاما من حماد وتشفيا من هند لأنه لحظ منها شماتة به ففي حرمانها من حبيبها شفاء لما ثار في قلبه من عوامل الغيرة. فبات ليلته تلك في قصر الغدير يفكر في ذلك فلما أصبح أخذ يتجسس لعله يعلم شيئا من أخبار هند فسار إلى المطابخ وتظاهر بالتفرج بمناظر الأطعمة وكيفية ذبح الذبائح فسمع بعض الخدم يتحدثون بعزم هند إلى دير بحيراء في ذلك اليوم.
أما هند فلم تستطع الخروج قبل ذهاب ثعلبة فلما علمت أنه سار مع والدها ووالدتها تنكرت وسارت كما قدمنا.
أما هو فاضطر لمرافقة جبلة وامرأته إلى قرب البلقاء استجلابا لإعجابهما ثم عرج إلى بصرى فلم يصلها إلا عند الغروب فدبر حيلة للقبض على حماد بتهمة اللصوصية والجاسوسية حتى إذا نفيت الواحدة ثبتت الأخرى فجاء بأحد خماري بصرى وأوعز إليه أن ينتحل حيلة يتهم بها حمادا بالسرقة ليكون له بذلك ذريعة للقبض عليه فإذا قبض عليه اتهمه بالجاسوسية أو فتك به بلا تهمة. ولتمام حيلته كان أبوه الحارث قد سار إلى بيت المقدس في عصارى الأمس أثناء غياب ثعلبة في السباق وسبب ذهابه أن هرقل إمبراطور الرومان ويسميه العرب قيصر الروم كان قد تغلب على الفرس وأخرجهم من الشام وانتهى من حروبه معهم في تلك السنة وكان قد نذر أنه إذا كشف الله عنه جنود الفرس سار ماشيا على قدميه من حمص إلى بيت المقدس فلما نصره الله بعث إلى الحارث بن أبى شمر أن يوافيه إلى بيت المقدس ليعد له الإنزال ويرمم ما تهدم من الأسوار والحصون في أثناء الفتح. فاستغنم ثعلبة غياب والده واستخدم الجند كما شاء فجاء بشرذمة منهم إلى الدير وفعل ما فعله كما قدمنا.
فلما سمع صوت حماد ورأى السيف بيد هند فر هو ورجاله على أن يكمنوا لهم في بعض الطريق.
الفصل العاشر
النجاة
أما حماد وهند فساقا جواديهما نحو صرح الغدير ولكنهما سارا في طريق غير الذي ظنا الخادمة تعود منه لئلا تلتقي بهما فيكشف أمرهما فلما خلوا في الصحراء وأمنا من العيون قال حماد: «تبا لذلك الخائن والله لوددت أن تكون تلك الطعنة في صدره فنتخلص من شره.»
فقالت : «يا ليتها كانت كذلك ولكن هذا الخائن سينال جزاء فعلته هذه على أننى أخشى أن يكون قد كمن لنا في بعض الطريق.»
Bog aan la aqoon