فلما اقترب الضحى خرج بعض أمراء جبلة وأخذوا يهيئون معدات السباق ويرتبوها فنصبوا حبلا يقف الفرسان عنده إذا عزموا على السباق فيكونون صفا واحدا على استواء واحد ثم تناول أحدهم قصبة طويلة أعدت لذلك اليوم وسار بها إلى آخر الساحة فنصبها هناك فمن سبق اقتلعها وأخذها ليعلم الحاضرون أنه السابق من غير نزاع فيقال لمن اقتلع تلك القصبة أنه أحرز قصب السبق.
الفصل الثالث
السباق
فلما تمت المعدات على هذه الصورة نودي في الفرسان أن يتهيأوا للسباق فركبوا جميعا وجاؤوا واحدا واحدا يلقون التحية على ملكهم جبلة فإذا وصل أحدهم أمام الفسطاط ترجل ودخل فقبل يد جبلة ويد ثعلبة وخرج وكانت هند أثناء ذلك تنظر في وجوه الداخلين كأنها تتوقع رؤية فارس تعرفه وكانت تفعل ذلك وتحاذر أن يشعر بها أحد فوقع نظرها على أحدهم وكان أحسنهم وجها في نحو العشرين من عمره يظهر من لباسه وملامح وجهه أنه ليس من بني غسان وكان ربع القامة أسود العينين حادهما لابسا قباء عربيا وعلى رأسه كوفية من الحرير المزركش شد فوقها العقال فحالما رأته ظهرت عليها البغتة وعلا وجهها بعض الاحمرار ولكنها تجاهلت وتشاغلت ببعض الشؤون فتقدم الشاب إلى جبلة فقبل يده وخرج ولم ينتبه إلى ثعلبة أما سهوا أو عمدا فعظم ذلك على ثعلبة ونظر إلى هند فإذا هي تشيع ذلك الشاب بنظرها حتى خرج من الفسطاط فاستيقظت عوامل الغيرة في قلبه ولا داعي لتلك الغيرة غير ما فطر عليه من الحسد والكبرياء لكنه لم يفه بكلمة.
ثم مر باقي الفرسان حتى تكامل عددهم وركبوا خيولهم واصطفوا إلى الحبل فلم تكن تسمع إلا قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات حوافرها تفحص بها الأرض كأنها تلح في طلب السباق ليطلق لها العنان فتجرى في ذلك السهل الواسع الأرجاء وفيها الأدهم والأشقر والمحجل والمجنب والمحبب واليعبوب والكميت وغير ذلك من أصناف الخيل.
وفيما كان الفرسان يتهيأون للسباق كان جبلة وهند وثعلبة يتداولون في من عسى أن يكون السابق في ذلك اليوم فقال جبلة: «ما ظنكما أن يكون السابق من هؤلاء الفرسان اليوم فيفوز بهذه الدرع.» فلم يجب ثعلبة بشيء ولكنه اعتدل في مجلسه وأخذ يلاعب شاربيه ولسان حاله يقول أنا هو السابق ولا أحد سواي وكان كثيرا ما يحرز قصب السبق في مثل هذا السباق ولكنه قلما أحرزه عن استحقاق لان المتسابقين إذا عرفوه وعرفوا منزلته من جبلة تساهلوا في الجري معه فيسبقهم ويظن أنه إنما سبق لمهارته وسرعة فرسه. فلما لم يجب ثعلبة قال جبلة: «ما ظنك براكب ذلك الجواد المحجل أني أراه يكاد يطير عن ظهره وهو الذي نال الجائزة في السباق الماضي.»
فخفق قلب هند عند ذكره أما ثعلبة فهز رأسه مستهزئا وقال: «هذا غلام غر يدعى الفروسية وهي براء منه ولولا الصدفة العمياء ما استطاع نيل تلك الجائزة ولو كنت في مقام ملك البلقاء (يريد جبلة) وكان هذا السباق تحت رعايتي ما أذنت بأن يكون بين فرسانه غريب لا نعرف أصله ولا يليق بنا أن ندخله فسطاط الملك وابنته جالسة لأنه لا يعرف مقام الملوك.» فأدركت هند أن كلام ثعلبة صادر عن غيرة لأنه لا يطيق أن يمدح أحد في مجلسه
أما جبلة فاتخذ كلامه مأخذ التوبيخ ولكنه حمله محمل الإجلال لمقامه مع ما تقتضيه حدة الشباب وقلة اختبارهم فأجابه بلطف: «وما يمنع أن يكون غريبا ويدخل علينا ونحن بنو غسان يضرب المثل بحسن وفادتنا وإكرامنا للغريب.» فخجل ثعلبة وسكت فاستأنف جبلة الحديث قائلا: «ولكنى مع ذلك أستغرب أمر هذا الشاب لسكناه بيننا مسكن الغرباء وكثيرا ما شاهدته وقد خرج للصيد ومعه حاشية كأنه من أبناء الأمراء فمن أي القبائل يمكن أن يكون على أني أراه مبالغا في إخفاء أمره وقد سألت عنه بعض أمرائنا غير مرة فلم ينبئونى بشيء عن أصله ولا يعلم أحد ما مقامه بيننا ولكنى سمعتهم ينادونه حمادا.»
فظن ثعلبة ذلك حجة للفوز في جداله فقال: «وهذا مما يحقره في عيني يا عماه فانه لا يبعد أن يكون جاسوسا مرسلا من ملوك الحيرة فهم ما انفكوا يناوئوننا ويريدون بنا شرا وخصوصا بعد أن نالهم ونال الفرس من حملات جنودنا وجنود الروم هذين العامين.»
فأغضى جبلة عن الجواب ثم جاءه مخبر أن الخيول معدة فكيف يرى الملك أن يكون سباقها قال: «ينقسم الخيالة خمسات يتسابق كل خمسة منهم في شوط على حدة فمن سبق أفرد جانبا حتى لا يبقى أحد لم يجر في حلبة السباق ثم يتسابق السابقون جميعا فمن أحرز قصب السبق منهم فهو صاحب الجائزة.» فعاد المخبر وأبلغ الأمراء المنوط بهم أمر السباق وترتيبه فقسموا الخيالة خمسات فجرت أول خمسة منهم حتى توارت عن النظر لأن مجال السباق يزيد على الميلين فعاد واحد منهم يحمل القصبة فتناولها رجل خفيف العضل سريع الجري أعد لمثل ذلك فأسرع بها وغرسها مكانها وأجلسوا السابق إلى جانب وهكذا كل خمسة على حدة
Bog aan la aqoon