فضحك الشيخ مستهزئا وقال: «لا يغرنك من دنياك يوم نعيم فإنها لا تحسن يوما حتى تسئ أياما فلا تفرح للحارث الغساني من اجل يوم استبد فيه فقد جاءه من ينزع عنه السيادة ويلحقه بأجداده أصحاب السيل العرم الذين إنما جاؤونا فرارا من الفقر بعد أن كانوا يقيمون في أرض تستقي من مستنقعات يجمعونها من مياه الأمطار وراء سد من حجر فلما أنهدم السد سال الماء فاغرق السهول ولم يعودوا يستطيعون بناء السد لضعفهم وقلة تدبيرهم فأجدبت أرضهم ففروا في جملة من فر منها إلى هذه البلاد منذ قرون متطاولة وقدر لهم الملك عن غير استحقاق فجاءهم الآن من ينزع الملك منهم ويكسر شوكتهم ويعلمهم مالهم وما عليهم.»
فعلم حماد أن الشيخ يشير إلى حكاية سيل العرم في جهات اليمن وما كان من تفرق بني قحطان بعده والغسانيون في جملتهم ولكنه لم يفقه ما أراده من قوله بقرب زوال ملكهم فقال له: «وما تعنى بزوال ملكهم ونحن لا نراهم يزدادون إلا قوة ومنعة.»
قال: «ألم تسمع بالعدنانيين الذين قدموا من الحجاز في هذه الأثناء فقد جاؤوا جماعة كبيرة ليقتصوا من الغسانيين ويبيدوهم عن آخرهم.»
فقال: «وما اوجب الاقتصاص وأي علاقة بينهما والحجاز على مسافة أيام من الشام والناس هناك في شاغل بإصلاح دينهم فقد ظهر فيهم من يدعوهم إلى دين الله وقد سمعت بأنه انشأ فيهم دولة جديدة دانت لها كل بلاد العرب فأهل الحجاز في شاغل عن هذه البلاد.»
فضحك الشيخ وقال: «كل ذلك من تدبير الله. وأما ما اوجب مجيء العدنانيين فهو وقاحة الحارث الغساني وكبرياؤه فقد أنبأني بعض المارين من هنا أن نبي قريش الذي ذكرته كتب إلى الحارث كتابا يدعوه فيه إلى دينه فبدلا من أن يقرأه ويتأمله ويرد الرسول ردا جميلا مزق الكتاب وأهان الرسول فشق ذلك على صاحب الرسالة فأنفذ جندا لحرب الحارث وفتح بلاده.»
فاهتم حماد بذلك الخبر كثيرا لعلمه أن الحرب إذا قامت عرقلت مساعيه وحالت بينه وبين ما يريد فضلا عما يخافه على هند من الخطر لان جبلة لا بد له من نصرة ابن عمه الحارث على انه لم يكن يخاف انهزامهم أو خذلانهم لما كان يتوهمه من ضعف أهل الحجاز وقلة خيراتهم كما هو مشهور عن تلك البلاد منذ القدم ولكن خوفه على هند من عواقب الحرب همه كثيرا فلبث برهة يفكر في أمره ثم قال للشيخ: «وهل أنت واثق بمجيء هؤلاء الحجازيين.»
قال: «لا ريب عندي من ذلك.»
قال: «العلك سمعت الخبر عن ثقة.»
قال: «سمعته من خبير وهمني أمره كثيرا حتى تحققته إذ يسرني خذلان الغساسنة فقد قلت لك أنهم أعداؤنا.» وكان ذلك الشيخ النبطي يظن حمادا يفرح بسقوط دولة بني غسان لأنه من لخم ولم يدر من له في صرح الغدير.
فلبث حماد صامتا لا يدرى ماذا يعمل وتذكر سلمان ووالده فتراكمت همومه فإلتفت إلى الشيخ فإذا هو قد ذبلت عيناه وغلب عليه النعاس شأن المشتغلين مثل شغله على خلو بالهم وخصوصا من كان في مثل سنه فانك بينما أنت تخاطبه في شأن لا تلبث أن تراه ينام فتركه حماد واشتغل بهواجسه.
Bog aan la aqoon