وبلغ هاشم جلولاء، فألقى الفرس متحصنين بها، مستميتين في الدفاع عنها، فحاصرها، ولم يكن الحصار وحده ليحملها على التسليم، فقد كانت الأمداد تجيء تباعا من حلوان، كما كانت الأمداد تجيء إلى المسلمين تباعا من المدائن؛ لذا طال الحصار ثمانين يوما كان الفرس يخرجون في أثنائها للقاء المسلمين ثم يرتدون إلى حصونهم منهزمين، وأيقن الفرس أنهم إن أقاموا على ذلك ذهبت شوكتهم، ولم يغن عنهم أنهم أضعاف جند المسلمين عددا؛ لذا أمرهم قائدهم مهران يوما فصبحوا المسلمين بأهول الحرب، يقول ابن كثير: «فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله حتى فنى النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات،
2
وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماء، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم! إنا كالون وهم مريحون، فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم! فحمل وحمل الناس، فأما القعقاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه.» ورأى القعقاع الناس يتحاجزون لإقبال الليل فنادى مناديه «أين أيها المسلمون! هذا أميركم على باب خندقهم، فأقبلوا عليه ولا يمنعنكم من بينكم وبينه من دخوله!» وحمل المسلمون وقاتلوا عدوهم قتالا أذكرتهم شدته ليلة الهرير إلا أنه كان أعجل، فلما انتهوا إلى باب الخندق ورأوا القعقاع قد أخذ به، ورأوا الفرس ينهزمون أمامهم يمنة ويسرة إذ يحول الخندق بينهم وبين الارتداد إلى المدينة، عند ذلك أخذهم المسلمون من كل وجه وقعدوا لهم كل مرصد، حتى لقد قتل منهم في ذلك الوقت مائة ألف رجل، وفر من بقي منهم يريدون حلوان، فاتبعهم القعقاع فأدرك مهران بخانقين فقتله، وفر الفيرزان على فرسه ينهب الأرض إلى حلوان، فذكر ليزدجرد مصيبة جلولاء، ففر يزدجرد إلى الري، وقدم القعقاع حلوان، فخرج إليه حماتها فقاتلوه قتالا شديدا، ثم انهزموا أمامه، ودخل المسلمون فغنموا وسبوا وضربوا الجزية عليها وعلى ما حولها من الكور والأقاليم.
وكتب سعد إلى عمر بفتح جلولاء وبالغنائم العظيمة التي غنمها المسلمون فيها، وبنزول القعقاع حلوان، واستأذنه في مطاردة الفرس داخل بلادهم، لكن عمر آثر الحذر فخالف بطل القادسية وفاتح المدائن عن رأيه، وكتب إليه يقول: «وددت لو أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد! إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.»
كان هذا الرأي الذي رآه عمر كله السداد، وليس يقف سداده عند إيثار سلامة المسلمين على كل ما سواها، بل يتخطى ذلك إلى أن المسلمين لم يكونوا قد أمنوا العراق واطمأنوا إلى حياة الاستقرار فيه، فقد كان شماله لا يزال مخشي الانتقاض، مع انتصار المسلمين بتكريت والموصل وهيت وقرقيسياء، وذلك بعد فتح المدائن، وكان جنوبه على مثل هذه الحال مع إخضاع المسلمين إياه قبل المدائن وبعدها، فليس من بعد النظر في شيء أن يدفع المسلمون جنودهم إلى جبال إيران وإلى ما وراء هذه الجبال من سهول مترامية الأطراف، فإذا انتفض العراق من بعد، كما انتفض قبل نزول سعد به وانتصاره الحاسم فيه، لم يكن التغلب عليه أمرا يسيرا، ومن الخير أن يتخذ المسلمون جبال إيران حدا فاصلا بينهم وبين الفرس، وأن يفرغوا للقضاء على كل أثر للانتقاض بالعراق، ليفرغوا بعد ذلك إلى تنظيم الحكم فيه.
هذا، ثم إن سياسة عمر كانت إلى ذلك العهد سياسة عربية ترمي إلى ضم الجنس العربي الممتد من المحيط الهندي إلى شمال العراق والشام في وحدة يكون السلطان فيها لشبه الجزيرة، بل يكون السلطان فيها للمدينة، وحسبه أن تطمئن هذه الربوع جميعا لوحدتها تحت هذا السلطان، وأن تكفل فيها حرية الدعوة لدين الله بالحجة والموعظة الحسنة، وأن يكون بينها وبين الفرس والروم من حسن الجوار ما يذهب عن العرب والمسلمين الروع، والله مظهر بعد ذلك دينه على الدين كله ولو كره الكافرين.
لم يكن لسعد إلا أن ينزل على رأي أمير المؤمنين وحكمه، وقد أرضى هذا الرأي الأبطال والجند بعد إذ رأوا القوات تسير بين حين وحين تقمع كل انتقاض يحدث في أنحاء السواد، وبعد إذ وقع لهم من مغانم القادسية والمدائن وجلولاء أضعاف ما كانوا يطمعون فيه، فلم يكن حظ المحارب من مغانم جلولاء دون حظه من مغانم المدائن، كان المال الذي أصابوه منها ثلاثين ألف ألف، فيه من النفائس والتحف ما حمله الذين فروا من المدائن، ثم إنهم أصابوا من الدواب وعدة الحرب ما لم يدع الفرس شيئا منه بالعاصمة، كما أنهم سبوا بجلولاء ولم يقع لهم بالمدائن سبي، فلما قسم سعد هذا الفيء العظيم أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب غير من كان له حظ في السبايا ومن بينهن من نشأن في الدلالة والنعمة، فأعجزتهن هذه النشأة عن الفرار في الجبال والسهول.
وبعث سعد بأخماس هذا الفيء إلى المدينة مع جماعة فيهم زياد بن أبي سفيان، فلما قدموا على عمر وصف زياد فتح جلولاء وحلوان في بلاغة وبراعة وصفا دفع عمر إلى أن يقول له: «هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به؟» وأجابه زياد: «نعم يا أمير المؤمنين! فوالله ما على وجه الأرض رجل أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على ذلك مع غيرك!» وقام فقص على الناس خبر الواقعة وفعال أبطال المسلمين فيها وكم قتلوا من الفرس، وما أصابوا منهم، كل ذلك في عبارة قوية أخاذة بمجامع القلوب، وأعجب عمر به فقال: هذا والله الخطيب المصقع! ومست هذه التحية قلب زياد فقال: «إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.»
وأشار بعض أصحاب الرأي على أمير المؤمنين أن يجعل الفيء في بيت المال، فقال: والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه! وبات الفيء في صحن المسجد وعليه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه، فلما أصبح عمر وصلى بالناس الغداة وطلعت الشمس أمر فكشف عن الفيء، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره وذهبه وفضته بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فوالله إن هذا لموطن شكر!» قال عمر: «والله ما هذا يبكيني! وتالله ما أعطى الله قوما هذا إلا تحاسدوا وتباغضوا، وما تحاسد قوم إلا ألقي بأسهم بينهم.»
نقف هنيهة عند هذه الكلمة الحكيمة، فلم يكن العرب يعرفون الكسب الهين قبل أن ينهال عليهم هذا الفيء العظيم من كل صوب، بل كانوا يسعون في مناكب الأرض يبتغون من رزق الله، فينال كل منهم جزاء عمله على قدر حظه، كانوا يذهبون بالتجارة رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام يحتملون ما يصيبهم من مشقة الطريق ومن عادية المعتدين، وكانوا يحمون القوافل التي تسير بين الغرب والشرق تحمل ما تحمل من أموال، لقاء أجر يتعرضون في سبيل اقتضائه لقتال من تحدثهم أنفسهم بسلب هذه القوافل، وكانوا لذلك يلقون العناء في ما ينالون من أسباب العيش ومتع الحياة، وها هم أولاء اليوم يغنمون من الحروب ما شاء الله أن يغنموا، ويجبى إليهم من الخيرات ما شاء الله أن يجبى، فما عسى أن يؤدي إليه ذلك الانقلاب الخطير في حياتهم الاقتصادية؟! لا عجب أن ينتهي بهم إلى الدعة وحب الترف، والدعة تدعو إلى التحاسد والبغضاء إذ يريد كل أن ينال الحظ الأوفر ويزداد به ترفا ونعمة، والناس إذا استناموا للدعة لانت قناتهم، وإذا تباغضوا ذهبت ريحهم، أين ذلك مما يدعو الله إليه من إخاء وتعاون وتساند ليكون أبناء الأمة عزا للأمة، وليكونوا أعوانا للحق الذي أوحاه الله إلى رسوله ينصرونه ويعززونه! وقد خشي عمر ما تؤدي إليه الدعة من لين وتباغض فبكى، وكأنما رأى خلال الغيب ما خطه القدر في لوحه لهذه الأمة التي بايعته فعزت به وعز بها، وأسالت النضار بفعالها في صحاري شبه الجزيرة الجرداء.
Bog aan la aqoon