وقسم عمر الخمس بين الناس على أقدارهم، ونفل منه من غاب ومن شهد من أهل البلاء، ورأى القطيف لا ينقسم فقال لمن حوله: «أشيروا علي في هذا القطيف.» قال الملأ: قد جعل الجند ذلك لك، فالرأي فيه رأيك، وقال بعض: إنه لأمير المؤمنين لا يشركه فيه أحد، وأبى عمر أن يقبضه أو يبدي في أمره رأيا فقام علي بن أبي طالب فقال: «لم يجعل الله علمك جهلا، ويقينك شكا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، وإنك إن تبقه اليوم على هذا لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس له.» قال عمر: «صدقتني ونصحتني.» ثم قطع القطيف وقسمه بين الناس، فأصاب عليا منه قطعة لم تكن أجود تلك القطع، ومع ذلك باعها بعشرين ألفا.
بينما كان عمر يقسم الفيء بين الناس بالمدينة، فيرى الناس فيما يصيبهم منه نعمة من الله لم يكن لهم بمثلها عهد ، كان سعد بن أبي وقاص قد اطمأن بالمدائن واستقر بقصر كسرى وجعل إيوانه مصلى للمسلمين، ينادى فيه باسم الله، وتقام فيه الصلاة، ويجتمع الناس به كل جمعة ليخطبهم سعد ويؤمهم، وكان يزدجرد قد نزل حلوان مغموما مدحورا، يقطع الهم نياط قلبه ويفري الأسى كبده، ويذكر عظمة فارس وجلال مجدها، فيزداد به الحزن، ويتراءى له شبح رستم وما كان يذكره من دلالات النجوم، أين يومه اليوم من تلك العهود الخوالي حين زحف أسلافه من إيران إلى العراق فاكتسحوه إلى شواطئ دجلة، وحين أقاموا بطيسفون قبالة سلوقية، وحين مدوا طيسفون، وضموا إليها ما حولها من البلاد، وجعلوا منها ومن سلوقية بلدا واحدا هو المدائن، ثم أطلقوا على سلوقية اسم بهرسير لينسى أهلها أيام عزها، إذا كانت مدينة يونانية حريصة على استقلالها، حرص إسبرطة على استقلالها! وأين يومه اليوم من عهود أجداده الأكاسرة بني ساسان الذين دوخوا العالم، ومن عهد جده أردشير صاحب القصر والإيوان والفخامة والنعمة! إنه اليوم مليك غلب على أمره، وطرد من عاصمة ملكه، ففر كما يفر الجبناء، أتراه يصبر على هذه الهزيمة ويرضى بهذه النكبة، وهل كتب القدر لهؤلاء العرب أن يطاردوه إلى أقصى الأرض؟ إن به من حرارة الشباب وإقدامه ما يمد له من حبال الأمل، أبقيت له من هذا لأمل بقية؟ أم حطمت الهزيمة هذا الإقدام وأثلجت تلك الحرارة، فقضت في نفسه على كل أمل وكل رجاء؟!
لم يفكر الشاب المنهزم في شيء أول ما نزل حلوان، لقد عرض على المسلمين الصلح على أن يكون دجلة حدا فاصلا بينه وبينهم، أتراهم وقد فتحوا المدائن يكتفون بها ويقفون عندها؟ إنهم إن يفعلوا يحققوا بعض رجائه، والمستقبل كفيل من بعد بتدبير شأنه، لكنهم منتصرون، والمنتصر لا يعرف هوادة، وجيوشه الكثيرة تطير إلى كل جانب تطلب النجاة، فليترك الأمر للأيام! وغد لناظره قريب!
ماذا يكون في غد؟ ذلك حديثنا في الفصل التالي.
هوامش
الفصل العاشر
المسلمون في العراق
استقر سعد بقصر كسرى، وأقام المسلمون في دور المدائن من حول القصر ينعمون بحياة دعة ونعمة، وما لهم لا يفعلون وفي أيديهم من المغانم التي نفلوها ما يكفيهم السنين، وأقواتهم تجيئهم من البلاد المجاورة سهلة وفيرة، ودجلة يجري من تحتهم فينسيهم البادية وكثبان الرمال، والجسر الذي يصل بين سلوقية وطيسفون، ويجعل منهما هذه المدائن البارعة متنزه المترفين، جدير بأن يلهم الشاعر العربي ما ألهم مثل هذا الجسر ببغداد علي بن الجهم إذ قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري!
Bog aan la aqoon