حركت هاتان العبارتان النفوس إلى الثورة، فتدخل أبو عبيدة بن الجراح في الأمر وقال موجها حديثه إلى أهل المدينة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.»
سكنت هذه العبارة ثورة النفوس، فعاد القوم يتجادلون بالحجة، وانضم بشير بن سعد من زعماء الخزرج إلى المهاجرين فشق كلمة الأنصار، وقدر أبو بكر أن الأمر استوى وأن اللحظة لحظة الفصل، فقام يدعو الأنصار إلى الجماعة ويحذرهم الفرقة، ثم أخذ بيد كل من عمر وأبي عبيدة ونادى: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا!» ورأى عمر الناس اختلفوا فلم يدع للخلاف أن تنبت شجرته، فقام فنادى بصوته الجهوري: «ابسط يدك يا أبا بكر!» وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي أن تصلي أنت بالمسلمين! فأنت خليفة رسول الله، فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعا.» وبايع أبو عبيدة أبا بكر وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك!» وتتابع أهل السقيفة فبايعوا أبا بكر مجمعين، لم يند عنهم إلا سعد بن عبادة، فلما تمت البيعة عادوا إلى المسجد يتلقفون الأنباء من بيت عائشة عن جهاز الرسول، فلما كان الغد جلس أبو بكر في المسجد، وقام عمر يعتذر إلى المسلمين عما ذكره من أن النبي لم يمت فقال: «إني قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدت في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه به، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» وقام الناس جميعا فبايعوا بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
هذا أول موقف لعمر بعد وفاة رسول الله، وهو كما ترى موقف حزم وبعد نظر وحسن سياسة بل هو موقف يرشح عمر للإمارة، ويشهد بجدارته لتولي سياسة الدولة الناشئة، مع إنكاره لذاته وتوجهه بكل تفكيره لخير الجماعة وحسن نظامها، لقد كان أشد الناس جزعا لوفاة رسول الله فلم يصدق حدوثها، فلما تيقنها لم يملك الجزع عليه تفكيره، ولم يصرفه الحزن عن التحدث إلى أبي عبيدة في أجل شأن المسلمين خطرا؛ في تدبير أمورهم وتوجيه سياستهم، وهو لم يكن يبتغي الأمر لنفسه على جدارته به، بل كان يفكر فيه تفكيرا منزها عن الأثرة والهوى؛ لذلك أسرع يريد أن يبايع أبا عبيدة، فلما نبهه أمين الأمة إلى أن الصديق أحق المسلمين جميعا بالأمر لم يتردد في إقرار رأيه، ولم يلبث حين عرف اجتماع السقيفة أن دعا أبا بكر ليواجهوا الأنصار فيه، ثم لم يصرفه عن مواجهتهم، ما قيل له من أن الانصار قر رأيهم فلن يعدلوا عنه، وذهابه مع صاحبيه إلى السقيفة هو الذي أدى إلى بيعة أبي بكر، وإلى اجتماع كلمة المسلمين.
لم يكن موقف عمر فيما قيل من تخلف علي بن أبي طالب وبني هاشم عن بيعة أبي بكر دون موقفه في السقيفة حزما وحسن سياسة، أنا في ريب من روايات التخلف عن البيعة، وقد أبديت هذا الرأي حين فصلت بيعة أبي بكر،
2
لكني لا أستطيع مع ذلك أن أجزم بأن عليا وبني هاشم أقبلوا على البيعة راضين إقبال غيرهم من المسلمين، والثابت أن فاطمة ابنة رسول الله ظلت مغاضبة أبا بكر إلى أن توفيت، أفكان ذلك لحرمان الصديق إياها ما طلبته ميراثا لها من أبيها، أم لأنها كانت ترى زوجها أحق من أبي بكر بالخلافة؟ ذلك ما اختلف فيه، فأما الذي لا خلاف عليه فذلك أن عمر كان يرى رأي أبي بكر أن تركة النبي صدقة لا تورث، ولا ريب أن رأيه هذا أغضب فاطمة، أفأدى غضبها إلى ثورة علي وإلى تهديد عمر وأخذه الأمر بالحزم؟ أيا كان ما حدث فقد ترك ما روي عنه أثرا في تاريخ الإسلام، لا يزال باقيا، وأقل هذا الأثر عدم إكبار الشيعة وغيرهم من العلويين عمر، بل عدم رضاهم عنه.
كانت سياسة أبي بكر بعد بيعته ألا يدع أمرا كان رسول الله يصنعه، وألا يصنع أمرا كان رسول الله يدعه؛ لذلك كان أول ما أمر به في خلافته أن يتم بعث الجيش الذي جهزه رسول الله بإمرة أسامة بن زيد لغزو الروم بالشام، وقد برم المسلمون بهذا الأمر كما برموا به في عهد رسول الله؛ لأن أسامة كان حدثا لما يبلغ العشرين، وزاد في برمهم خشيتهم أن تتعرض المدينة للخطر إذا غاب هذا الجيش عنها وانتقض العرب عليها وقاموا يناوئون سلطانها؛ لذلك قالوا لأبي بكر: «إن هؤلاء - أي جيش أسامة - جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.» وأجابهم أبو بكر في حزم: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.»
Bog aan la aqoon