هذه هي الرواية التي تلي الأولى في الشهرة، وابن إسحاق يثبت الروايتين ويردفهما بقوله: «والله أعلم أي ذلك كان.»
هاتان الروايتان ومثلهما مما أوردته الكتب عن إسلام عمر تصور اليوم الذي ترك عمر فيه دين آبائه وأجداده، وأشهد رسول الله على إيمانه بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، لكنها جميعا لا تصور التصور النفسي الذي أدى بعمر إلى أن يسلم، أفكان ذلك أمرا مفاجئا؟ أفبلغ من مباعدة عمر للإسلام وعداوته له أنه أبى النظر فيه والتدبر لشيء من أمره، ثم قذف الله بالإيمان إلى قلبه، وجعل الصحيفة التي كان خباب يقرؤها لأخته، أو القرآن الذي كان رسول الله يتلوه في صلاته، وسيلته جل شأنه لهداية هذا الرجل الذي كان لدينه عدوا؟ أم كان الأمر غير هذا، وأن عمر قد سمع القرآن قبل أن يقرأه في صحيفة خباب، وقبل أن يختفي تحت ثياب الكعبة فيسمعه من رسول الله، وأنه قلب فيه نظره بينه وبين نفسه، ثم كان يعود إلى التفكير في أمره وأمر محمد ومن اتبعه، وأن تفكيره الطويل هداه بإذن الله إلى ما اهتدى إليه؟
لا تصور لنا روايات المؤرخين عن إسلام عمر ما كان من هذا أو ذاك، مع أن تصويره ليس بالأمر العسير، ومع أن هذا التصوير يحسم أمرا يعتبره الجمهور من المسلمات، ونراه مرجوحا لا يثبت للنقد لحظة.
هذا الأمر هو ما جرت به الرواية المشهورة من أن عمر ذهب يقتل محمدا وهو في أصحابه عند الصفا لولا أن هداه الله حين قرأ الصحيفة التي كان خباب يقرئها ختنه وأخته، فليس بمعقول أن يقصد عمر إلى قتل محمد بالسيف وهو بين أربعين من أصحابه فيهم حمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما من أبطال مكة، ثم يحسب مع ذلك أنه قادر على تنفيذ مقصده، قد يصح أنه عزم التخلص من محمد بالقتل، وأنه فكر في الوسيلة لتنفيذ عزمه، فلما قرأ الصحيفة ورأى ما فيها حسنا رجع عما فكر فيه ثم أسلم، أما أنه أراد القتل على النحو الذي تصوره القصة المشهورة في إسلام عمر فلا يسيغه العقل، وهو لذلك مرجوح عندي، والراجح ما ورد في الرواية الثانية على لسان عمر نفسه وما أيده ابن حنبل في مسنده.
وهذا الراجح يتفق وما عرف عن نفسية عمر وشخصيته، فقد كان من صميم قومه، وكان متعصبا لهم، حريصا على نظامهم وعلى مكانة بلدهم، ثم إنه كان رجل عمل، قيمة الفكرة عنده أثرها الفعال في الحياة، فأما التأمل للتأمل، وأما الهيام بالفكرة لذاتها وإطالة التقليب فيها ابتغاء الحقيقة المطوية في جوانبها، ولو لم يكن للحقيقة ولا للفكرة مظهر يتأثر الناس في حياتهم به، فذلك ما لم يكن يغريه أو يخرجه عن إلف قومه، كان ذلك رأيه في شئون الحياة جميعا، بل كان رأيه في شئون العاطفة نفسها، فهو لم يكن يطمئن أن يقضي الشاب وقته يتلطف بامرأة أو يتغنى بمفاتنها، يريد بذلك أن يفتنها، بل كان يرى ذلك ضعفا غير جدير برجل كملت رجوليته؛ لذلك لم يعطف يوما على أولئك الغزلين الذين يتخذون من التغني بالحب صناعة لهم، أما مظهر رأيه هذا في أمر العقيدة، فكان في شدة برمه بابن عمه زيد بن عمرو؛ لأنه صبأ عن دين قومه، وذهب يلتمس دين الحق عند غيرهم، هذا كله كان في رأي عمر خيالا لا أثر في الحياة له، ولا يتفق مع ما فطر عليه من حرص على نظام الجماعة، وعلى مكانة مكة بين العرب جميعا.
وقد كان هذا الاتجاه الفكري متفقا مع خلق عمر؛ فقد كان قويا في بدنه، وكان لذلك يؤمن بالقوة في كل مظاهرها، وكان أشد بمظاهر القوة إيمانا أول ما بعث النبي؛ لأنه كان في فتوة شبابه، لما تخفف تجاريب الحياة من حدته واندفاعه، لهذا كان يعذب من يستطيع تعذيبهم ممن يتبعون رسول الله ليفتنهم عن دينهم، ولو استطاع أن يحاربهم جميعا لحاربهم، لكنه كان يعلم أن قبائل قريش تمنع رجالها، وأن من قبيلته بني عدي من لم يكونوا على رأيه؛ لذلك وقف أمره كما وقف أمر غيره من قريش عند تعذيب المستضعفين، دون أن يستطيعوا البطش بأبي بكر وعثمان بن عفان وأبي عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن كانت قبائلهم تمنعهم، وإن لم يصدهم ذلك عن مقاطعتهم وإيذاء من يستطيعون إيصال الأذى إليه منهم.
على أن عمر كان إلى هذا كله رقيق القلب، دقيق الحس بمعنى العدل، ومن آيات رقته ما كان منه حين قامت أخته تكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما رأى ما بها من الدم ندم وارعوى، وهذه رقة كثيرا ما نجدها في الأقوياء والباطشين حين يرون أنفسهم جاوزوا الحد اعتمادا على قوتهم، وحواره مع أم عبد الله بنت أبي حثمة يوم أزمعت الرحيل مع المهاجرين إلى أرض الحبشة، يشهد بهذه الرقة ويدل عليها أبلغ الدلالة، وقد بلغ من تأثر أم عبد الله بنت أبي حثمة بهذه الرقة أن قالت لزوجها حين رجع إليها: «لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا، حتى طمعت في إسلامه .» هذه الخصال مجتمعة تفسر لنا إسلام عمر من بعد.
لقد كان حريصا على نظام مكة وعلى مكانتها، مشفقا أن تسيء الدعوة للدين الجديد إليها، فلما رأى النبي وأصحابه يدعون إلى ربهم بالحسنى ولا يثيرون في الأرض فسادا، ثم رآهم إلى ذلك أقوياء في دينهم كل القوة، ورأى عقيدتهم أثمن عندهم من كل ما في الحياة ومن الحياة نفسها، عاد يفكر في أمرهم وفي موقفه منهم، فقد هددوا وأوذوا وعذبوا، فما استكانوا وما ضعفوا، وما كان جوابهم على ما أصابهم إلا أن قالوا ربنا الله، وزاد بهم الأذى والعذاب، فآثروا التضحية بوطنهم على التضحية بعقيدتهم، فركبوا البحر مهاجرين إلى أرض الله فرارا بدينهم، ليس هذا الدين إذن فكرة نظرية لا أثر لها في حياة أصحابها، ولا في حياة الجماعة التي يعيشون فيها، بل هو قوة دافعة جسيمة الأثر في الحياة الفردية والحياة القومية كلتيهما، وقد بدا هذا الأثر في حياة مكة منذ بدأ الإسلام فيها، وسيكون هذا الأثر أعظم على الأيام وأكثر وضوحا، فماذا يئول إليه أمر مكة ومكانتها إذا اتصلت هذه الهجرة، وتسامع العرب أن أبناءها لا يقيمون بها؛ لأنهم يظلمون فيها مع ما بينهم وبين القبائل التي تتألف منها أم القرى من صلة القربى وآصرة المودة، ويظلمون لغير شيء إلا أنهم خالفوا قومهم عن عقيدتهم، وفي بلاد العرب شتى العقائد: فيها المؤمنون بمختلف الأصنام والأوثان، وفيها من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وفيها مجوس يتبعون فارس، أليس خيرا لمكة أن يترك هؤلاء المسلمون لا يضارون في عقيدتهم ولا يفتنون عنها، وأن تترك الحرية لمن شاء أن يدخل في دينهم وأن يكون معهم؟! وهل لرجل كعمر تعلم ما لم يتعلمه غيره، وعرف من حكمة الفرس والروم واليهود والنصارى أكثر مما عرفوا، أن يظل مباعدا للمسلمين، وألا ينظر في دينهم نظر البصير الناقد لا نظر المتعصب الحاقد؟!
لقد سمع وقومه دعوة محمد والقرآن الذي يوحى إليه، وقد عرف نبأ الذين خرجوا يستمعون إلى رسول الله وهو يصلي في أثناء الليل في بيته ، وكيف عادوا ليلة بعد أخرى يستمعون إليه، وعرف ما كان من تلاومهم، ثم عرف أن أبا الحكم بن هشام سئل عما سمع من ذلك فقال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!» ولهذا ظل أبو الحكم ومن معه يعذبون المسلمين بغيا بغير حق، وظل المسلمون على دينهم لا يفتنهم العذاب، بل يزيدهم له حبا وبه تمسكا، أليست هذه حجة دامغة على أنهم على الحق، وأن أبا جهل إنما أبى أن ينظر في دين محمد، وأن يؤمن به أو يصدقه، لما بين بني عبد شمس وبني عبد مناف من تنافس؟! فما لعمر لا ينظر في هذا الدين، ولا تنافس بين بني عدي وبني عبد مناف؟! لهذا ذهب عمر يستتر بثياب الكعبة ليرى محمدا يصلي، وليسمع ما يتلو في صلاته من قرآن ربه، ولهذا حرص على أن يتلو سورة طه في الصحيفة التي كانت عند أخته، ولقد نظر في هذا كله وأطال فيه الفكر فاهتدى، فأيد الله به دينه، ونصر به رسوله.
كان النبي عليه السلام شديد الحرص على أن يؤيد الإسلام برجل قوي جريء الجنان، لا يخشى أن يناهض خصومه في سبيل عقيدته، ولذلك كان يدعو ربه: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب!» وكان أبو الحكم رجلا حديد الوجه، حديد اللسان، قوي الشكيمة، لا يبالي الحرب ولا يهابها، وكان عمر بن الخطاب ما رأيت، فإسلام أحدهما جدير بأن يؤيد المسلمين، وأن يدفع الكثير مما يصيبهم من الأذى، لكن أبا الحكم كان متأثرا بما قدمنا من عامل المنافسة بين عشيرته وعشيرة محمد، فلم يكن إيمانه بالدين الذي جاء به محمدا أمرا ميسورا، أما عمر فقد ظلت الدوافع تؤدي به إلى طريق الحق شيئا فشيئا، وتحطم من حوله قيود التعصب لقومه ولنظام مدينته رويدا رويدا، وتغلب في نفسه عناصر العدل الأصيل فيها على سائر العناصر، حتى انتهى إلى ما قدمنا، فجاء إلى محمد وهو بين أصحابه في دار الأرقم عند الصفا، أو تبعه في الطريق من مصلاه عند الكعبة إلى بيته، فلما سأله رسول الله: ما جاء بك؟ قال في غير تردد: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
Bog aan la aqoon