ولم يغن عن هؤلاء الصابئين عنده أنهم كانوا ذوي حكمة ورجحان عقل؛ بل لعل حكمتهم ورجحان عقلهم جعلاهم أكبر جريرة في نظره، فالناس لا يتبعون الجهال منهم ولا يتابعون عامتهم، وإنما يتبعون من بني عشيرتهم من عرفوا حسن بصره بالأمور، ودقة منطقه في تحري الحق، فإذا جاز لقس بن ساعدة الإيادي أن يعيب أوثان العرب فهو نصراني له من دينه ما يعذره، أما زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبد الله بن جحش وأمثالهم من أهل مكة الذين انصرفوا عن عبادة الأصنام، وقال بعضهم الشعر في التوحيد، فلا عذر لهم ولا مفر من خصومتهم وحربهم، فلو أنهم تركوا وشأنهم لأضلوا جمهور الناس وفرقوا كلمتهم، ولأوشكوا أن يثيروا في الأرض الفساد، وهذه الحدة من عمر وأمثاله قد حفظت على قريش وحدتها، وعلى مكة مكانتها، وجعلت الحكماء يقصرون حكمتهم على أنفسهم، فلا يثيرون غيرهم لاتباعهم، وتغيير ما ورث الناس من عقائد آبائهم وأجدادهم.
وقد كان عمر من أشد قريش على الصابئين فيها وأكثرهم جرأة عليهم، وأقسامهم معاملة لهم، وكان له من غلظته ومن سرعته إلى الغضب ما يدفعه إلى المبالغة في شدته، وهو لم يكن قد جاوز الخامسة والعشرين، فكان شبابه يذهب به في التعصب لرأيه إلى أبعد مدى، وقد اقترنت حدته في التعصب لرأيه بغلظته وقسوته، فكان يحارب الخارجين على عبادة الأصنام أشد الحرب، ثم كان أشد حربا للذين يعيبونها.
في هذا الحين أذن الله فبعث محمدا إلى قومه يدعوهم للهدى ودين الحق، فلما بدأت دعوة التوحيد تنتشر، أخذ المتعصبون للأصنام من أهل مكة يعذبون المستضعفين ممن أسلموا ليردوهم إلى عبادة الأصنام، وكان عمر بن الخطاب من أشد أهل مكة خصومة للدعوة الجديدة ومحاربة لها، وسعيا لفتنة الذين اتبعوها.
ذكر ابن هشام أن أبا بكر مر به يوما وهو يضرب جارية ويعذبها لتترك الإسلام، ولقد ظل يضربها حتى مل لكثرة ما ضربها، عند ذلك تركها وقال: إني أعتذر إليك! إني لم أتركك إلا ملالة، وأجابته الجارية: كذلك فعل الله بك، وابتاع أبو بكر الجارية فأعتقها.
لم يكن عمر يحارب محمدا ودعوته تعصبا وجهلا؛ فقد رأيته من أحكم أهل مكة وأكثرهم علما، وهو قد سمع من أقوال محمد ما أعجبه، فلم يزد ذلك خصومته للدعوة الحديثة إلا لجاجة وقوة، ولم يزده إلا إمعانا في إيذاء من يستطيع إيذاءهم من المسلمين، حتى كانوا يلقون منه البلاء أذى لهم وشدة عليهم، ذلك بأنه رأى في متابعة هذا الرجل تقويضا لنظام مكة وإثارة للفساد فيها، ومكة ونظامها وطمأنينة أهلها أحب إليه من محمد ومن دعوته التي فرقت كلمة قريش وهونت مكانة البلد الحرام، والصبر على هذه الدعوة يزيد كلمة قريش فرقة ومكانة مكة تهوينا، ولئن وقفت قريش من محمد عند مناوأة الذين اتبعوه ومحاولة رد الضعفاء منهم عن دينهم، ليذهبن ذلك بريح مكة، وليجلعن قريشا مضغة في أفواه العرب جميعا.
وأي ذنب جنى هؤلاء الضعفاء حتى يعذبوا! إنما الذنب ذنب محمد وسحر بيانه وقوة منطقه، فهذا البيان الساحر هو الذي خلب عقول الضعفاء وعقول غيرهم ممن صبئوا عن دين آبائهم وأجدادهم، فلو أن محمدا مات؛ لانقضت الفتنة وانجلت الغمة، وأظل السلام البلد الحرام وما قتل فرد لنجاة قبيلة، بل لنجاة قبائل مكة جميعها، فتعود كلمتها إلى الاجتماع، ونظامها إلى الاستقرار!
لكن محمدا يقول كلاما حسنا، وهو لم يزد على ترديد هذا الكلام ودعوة الناس بالحسنى لاتباعه، وهو بعد رجل لم تجرب عليه قريش كذبا قط، أفيقتل لغير شيء إلا أن يقول ربي الله، ويقول ذلك لأنه يعتقده ويؤمن به !
وكيف السبيل إلى قتله أو التخلص منه وهو من بني هاشم، وبنو هاشم يمنعونه! وبين الذين آمنوا به واستجابوا لدعوته وقاموا معه جماعة ذوو مكانة ينتمون إلى قبائل عزيزة تمنعهم كما يمنع بنو هاشم محمدا، فأبو بكر وطلحة بن عبد الله من بني تيم بن مرة؛ وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص من بني زهرة، وعثمان بن عفان من بني عبد شمس؛ وأبو عبيدة بن الجراح من بني فهر بن مالك، والزبير بن العوام من بني أسد، ولهؤلاء جميعا من المكانة في قبائلهم ما يقتضيها الذود عنهم إذا اعتدى معتد عليهم، فلو أن عمر حاربهم وحارب محمدا معهم وألب قريشا عليهم لأثار بمكة حربا أهلية أشد خطرا على مكانتها من محمد ودعوته.
كانت نفس عمر تضطرب بهذه الخواطر كلما خلا إليها، فإذا خرج إلى قومه ورأى تفرق كلمتهم راجعه حرصه على أن تعود إلى مكة سكينتها بالقضاء على مصدر هذه الفرقة، وظل هذا الخاطر يتردد في نفسه، حتى أمر محمد من اتبعه بالهجرة إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينهم، فلما رآهم عمر يفارقون أهلهم ووطنهم رق لهم، وحز الألم في قلبه لفراقهم، وعظم عليه الأمر، فثارت نفسه وطال تفكيره في التخلص من محمد ودعوته، إنه إن يفعل يرح قريشا ويرض آلهة الكعبة وآلهة العرب جميعا، فإن أصابه بفعلته مكروه احتمله في سبيل قريش وفي سبيل مكة، وقريش أهله، ومكة وطنه، والمكروه في سبيل الأهل والوطن سائغ مستحب.
ذلك ما استقر عليه عزمه، لكنه نسي أن لله في الخلق حكمة، وأن حكمته جل شأنه قضت أن يغلب عقل عمر ثورة غضبه، فيؤمن بمحمد ليكون الفاروق الذي يتحدث الناس باسمه في إجلال وإكبار إلى آخر الدهر.
Bog aan la aqoon