وبرقة إقليم من طرابلس، سمي باسم مدينة كانت تقام حيث تقوم اليوم بني غازي، قال ابن دقماق: إن هذا الإقليم كانت به مدن كثيرة عامرة ذات أنهار وأشجار، وإنه كان كثير الناس والضياع، ويزرع به الزعفران، وقد روى أن التجار كانوا يكثرون التردد على برقة مشرقين ومغربين؛ لأنه كان يلج إليها من الشرق ومن الغرب صنوف من التجارة ليس في كثير من بلاد المغرب مثلها؛ لذلك لم يكن عجبا ألا يدخلها جباة المسلمين بعد صلحها يقتضون جزيتها؛ إذ كانت تبعث بالجزية إلى عمرو بمصر مع جماعة من أهلها، ومن عجيب ما يروى عن صلحها أن أهلها أبيح لهم أن يبيعوا أبناءهم لأداء الجزية، ولا تفسير لهذه الإباحة إلا أن بيع الأبناء في أداء الدين كان جائزا عندهم، فلم يحرمه المسلمون إلا على من أسلم،
1
وأكبر الظن أن أبناءها كانوا غير راضين عن هذا النظام بدليل ما ذكره ياقوت من أن أكثر الناس في برقة أسلموا.
وسار عمرو من برقة إلى طرابلس، وكانت مرفأ حصينا به مسلحة من الروم تحميه وتجد حوله من الخصب ميرة تختزنها في قلاعه، فلما رأوا مقدم المسلمين أقفلوا أبوابه وثبتوا للحصار الذي ضربه العدو عليهم، وانتظروا مجيء مدد من البحر يعينهم في موقفهم، وانقضت أسابيع لم يجئ المدد خلالها، وعرف العرب في أثنائها أن المدينة غير محصنة من جانب البحر، فانسل جماعة منهم من تلك الناحية وصاحوا مكبرين، فلم يسع الروم إلا الفرار إلى السفن تاركين المدينة يفتح الحراس أبوابها فيدخلها عمرو على رأس جيشه.
وسارت كتائب أذاعت الرعب في قلوب أهل الإقليم، فلم يسع الناس في كل أرجائه إلا التسليم، وكتب عمرو إلى أمير المؤمنين يستأذنه في السير إلى تونس وما وراءها من شمال إفريقية فلم يأذن له، فعاد إلى برقة حيث أقبلت إليه أكبر قبائل البربر فدانت له بالطاعة،
2
فلما اطمأن إلى زوال ملك الروم من تلك البلاد كلها قفل راجعا إلى الإسكندرية بالأسرى والغنائم.
وأراد عمرو أن يؤمن حدود مصر من الجنوب كما أمن حدودها من الغرب، فبعث عقبة بن نافع الفهري إلى النوبة، فلقيه أهلها وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا ارتد عقبة على أثره، ولم يعقد صلحا ولا هدنة، ذلك أن أهل النوبة كانوا يرمون بالنبل فلا يخطئون، وكانوا يتحرون الأعين فيرمونها فيفقئونها، فسماهم العرب رماة الحدق، وظلت كتائب عمرو بعد ارتداد عقبة تناوشهم على الحدود، فلما كانت خلافة عثمان بن عفان صالحهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح على هدنة: ألا يقاتل أحد الفريقين الفريق الآخر، وأن يتبادل الفريقان الرقيق يعطيه أهل النوبة المسلمين، والطعام يعطيه المسلمون أهل النوبة بما يوازي ثمن رقيقهم.
على أن أهل النوبة لم يفكروا في اجتياز التخوم إلى مصر لمناجزة قوات المسلمين، بل كفاهم أن ردوا عدوهم عن ديارهم فأقاموا بها على حذر منه؛ لذلك لم يخش عمرو جانبهم وأقام مطمئنا إلى سلامة مصر من ناحية الجنوب، كما اطمأن إلى سلامتها من ناحية الغرب بعد أن هزم الروم في برقة وطرابلس، أما وقد تمت له هذه الطمأنينة فقد انصرف بكل تفكيره إلى تدبير الأمر في مصر وتنظيم حكمها، فكيف كانت سياسته في هذا التدبير وهذا التنظيم؟
يجمل بنا لنجيب عن هذا السؤال، أن نفصل في مسألة طال خوض المؤرخين فيها، فأنت قد رأيت، مما تقدم في هذا الفصل وفي الفصلين اللذين سبقاه، أن عمرا فتح مصر كلها عنوة، فلم يتم بينه وبين الروم صلح عليها، ولم يكن القبط من أهلها ليصالحوه وهم في سلطان هرقل والذين جلسوا على العرش من بعده، وقد وقع المقوقس مشروعا للصلح مع عمرو في أثناء حصار بابليون فرفضه هرقل، وبرفضه عادت الحرب بين الفريقين، حتى انتهت إلى هزيمة الروم وجلائهم عن البلاد كلها، مع ذلك يفيض المؤرخون المسلمون في ذكر روايات يذهب بعضها إلى أن مصر فتحت صلحا، ويذهب بعضها إلى أنها فتحت عنوة، ويغلون في هذه الإفاضة، حتى يكاد الإنسان يحسب أنه لن ينتهي في هذا الأمر إلى رأي يطمئن إليه.
Bog aan la aqoon