165

الفصل العشرون

فتح الإسكندرية

يجمل بنا قبل أن نتابع مسيرة الغزاة العرب إلى مدينة الإسكندر أن نتخطى مياه بحر الروم إلى البسفور، لنرى من حوله ما تضطرب به أحشاء الإمبراطورية الرومية، وما يبدو من أثر هذا الاضطراب في عاصمة قسطنطين.

فقد مات هرقل بالقسطنطينية والاضطراب يسود بلاطه بسبب ما أصاب الإمبراطورية من النكبات في الشام وفي مصر، وازداد البلاط بموته اضطرابا، وفشت فيه دسائس الطامعين وذوي المآرب من الأشراف ومن رجال القصر، ولقد عظم أمر هذه الدسائس في شئون الدولة؛ لأن الأمر لم يؤل بعد هرقل إلى عاهل ذي حزم وقوة، بل آل إلى ولديه «قسطنطين» و«هرقليوناس» وهما أخوان لأب، وإلى «مرتينا» زوج هرقل وأم هرقليوناس التي شاركتهما في الحكم، وقد حاولت مرتينا أن تستأثر بالأمر كاستئثارها به في العهد الأخير من حياة زوجها، في حين كان قسطنطين أكبر الأخوين وآثرهما عند الناس، وكان له بسبب ذلك حزب قوي يؤيده ، ونشأ عن ذلك ما كان لا بد أن ينشأ عنه؛ جعل كل شريف وكل عظيم غاية همه أن يكسب لنفسه الجاه والسلطان بالزلفى إلى الإمبراطورة أو إلى قسطنطين، أو الائتمار مع مرتينا على ابن زوجها ومع قسطنطين على زوج أبيه، بذلك سادت بلاط بزنطية حال كالتي سادت بلاط فارس قبل أن يعتلي يزدجرد عرش الأكاسرة، فكان ذلك مما أعان المسلمين على الأسدين، فارس والروم، ومكنهم من الظفر بهم.

مع ذلك كان الناس يتطلعون إلى هذا الثالوث الذي جلس على عرش هرقل؛ يرجون في حكمته ما ينقذ الإمبراطورية مما هوت إليه في السنوات الأخيرة من عهد العاهل الشيخ العظيم الذي سما به الحظ في أول حكمه إلى ذروة رفعت اسم هرقل فوق السماك، ثم قذف به في آخر أعوامه من هذه الذروة الشاهقة إلى حمأة الهزيمة والعار، وكانت مصر وما يجري فيها وما يمكن عمله لإنقاذها، أول ما يشغل رجال الدولة وأهل بزنطية جميعا، فضياع مصر وغلاتها معناه نقص الأقوات في أرجاء الإمبراطورية كلها؛ لذلك أسرع قسطنطين فبعث إلى قيرس فجاء به من منفاه، كما دعا أحد قادة الروم في مصر ليشير عليه بما يجب للدفاع عنها، واغتبطت مرتينا بدعوة قيرس لعلمها بميله إليها وثقتها بدهاء البطريق وقوة مكره، وكان قيرس لا يزال على رأيه الذي صارح هرقل به، لكنه أظهر الاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل الروم في صلح مع العرب، ووعد قسطنطين بإرسال الأمداد الكبيرة إلى مصر، وأمر بتجهيز السفن التي تحمل تلك الأمداد، وأبدت الإمبراطورة مرتينا من الحماسة لهذا كله ما ضاعف حماسة الشعب واغتباطه، لكن هذا الشعب لم يلبث أن فوجئ باعتلال قسطنطين ووفاته بعد مائة يوم من وفاة أبيه؛ لذلك أسرع الناس إلى اتهام مرتينا بأنها دبرت موته، وعمل جانب من البلاط والنبلاء على ترويج هذا الاتهام، وكان كونستانس بن قسطنطين ممن أعلنوا هذه التهمة وأذاعوها؛ فأدى ذلك إلى ثورة الناس بمرتينا وانتقاضهم عليها، وإلى وقوف الأمداد دون السير إلى مصر.

وعبثا حاولت مرتينا أن تكذب ما ينسب إليها، وأن تستخلص العرش لابنها هرقليوناس، فقد اتخذت محاولتها استخلاص العرش لابنها حجة عليها، فثار الجند كما ثار الشعب بها، وظلت هذه الثورة وارية الضرام أشهرا، ثم انتهت إلى مبايعة كونستانس بن قسطنطين شريكا لهرقليوناس في ولاية الأمر.

رأى قيرس أن الثورة موشكة على نهايتها، وأن كونستانس سيرث مكان أبيه من العرش، فأسرع بالسفر إلى مصر، متفقا مع مرتينا وابنها، وسافر معه عدد كبير من القسوس وجيش أعد مددا لقوات الروم المدافعة عن مصر، ولعله أدخل في روع الإمبراطورة أن هذا الجيش سيكون قوة لها في أرض الفراعنة، وأنها تستطيع أن تلجأ هي وابنها إليه إذا عادت دسائس خصومها في بزنطية فأثارت الشعب بها كرة أخرى، وبلغ الأسطول الذي أقل قيرس ومن معه عاصمة مصر في شهر سبتمبر سنة 641، فاستقبل أهلها البطريق الشيخ استقبال البطل الفاتح الذي جاء من قبل قيصر ينقذ مدينتهم، وينقذ دينهم، وينقذ الإمبراطورية.

1

أفكان لقيرس خطة مرسومة وسياسة ذاتية جاء بها إلى مصر؟ يذهب بتلر إلى أنه جاء وطيد العزم على مصالحة العرب، وأنه «من غير شك حمل الإمبراطور - وهو غرير لا رأي له - على الإذعان للعرب والتسليم لهم، كما حمل على رأيه هذا مجلس الشيوخ المستضعف، ورجال البلاط وهم من أهل العجز والخور ... ومن الجلي فوق ذلك أنه استمال الإمبراطورة مرتينا إلى رأيه الضعيف، لا سيما وقد كان أنصارها ممن يرون مصالحة العرب، وإن كلفهم ذلك ما كلفهم، وكانت هي دائما ترمي في سياستها إلى التسليم والإذعان وذلك كان رأي قيرس الذي ظل يجاهر به في كل حين.» ويفسر بتلر رأيه هذا بأن قيرس كان «يريد أن يزيد في سلطانه الديني بالإسكندرية، وأن يقيمه على أطلال الدولة بعد خرابها، ولسنا نجد رأيا آخر أكثر ملاءمة لما بدا منه، فهو خير رأي نستطيع به أن ندرك ما كان بينه وبين عمرو من صلات خفية، وما قارفه من خيانة دولته الرومانية فلنصفه بأنه كان خائنا للدولة في سبيل ما توهمه صلاحا للكنيسة.»

أراني في حل من مخالفة بتلر في مذهبه هذا، ومن القول كرة أخرى بأنه متأثر فيه بنزعته المسيحية أكثر من تأثره بوقائع التاريخ، فقد كان قيرس يعلم تمام العلم أن المسلمين يكفلون حرية العقيدة لأهل البلاد التي يفتحونها، وينصون على ذلك نصا صريحا في المعاهدات التي يعقدونها معهم، كذلك فعلوا في الشام وفي العراق في عهد أبي بكر وفي عهد عمر، وما كانوا ليخالفوا سنتهم هذه في مصر، وهم إذ يفرضون الجزية على أهل البلاد المفتوحة إنما يفرضونها لقاء تأمين دافعيها على أنفسهم وذراريهم وأموالهم وعقائدهم ومعابدهم، لا يفرقون في هذا التأمين بين الملكانيين والمينوفيسيين، ولا بين الروم الحاكمين والقبط المحكومين، ولا نحسب قيرس غرته نفسه فظن بها القدرة على أن يلعب بعمرو بن العاص داهية العرب أو أن يخدعه، فيسترد لنفسه ما كان له من قبل من حرية الاضطهاد والعسف، فإذا صح ما ظنه بتلر من أن قيرس جاء إلى مصر معتزما مصالحة العرب، فلم يكن ذلك لغرض ديني أو لغرض سياسي، بل لأنه رأى قتالهم غير مؤد إلى نتيجة إلا هزيمة الروم واندحارهم، وبخاصة بعد أن فشت الدسائس في بلاطهم فزادتهم ضعفا وآذنت دولتهم بالتدهور والانحلال.

Bog aan la aqoon