154

ولئن صحت هذه الرواية لتكونن بالغة في الدلالة على اتجاه عمرو في تفكيره، وعلى أنه كان يؤمن بنظرية المنفعة إيمانا قويا، فهو قد أنكر على محمد مع قومه، فلما ذهبت ريح قريش راجع نفسه ونظر في أمر النبي وفيما يدعو إليه من الإيمان بالله إيمانا يدخل صاحبه الجنة، وقد يجعل له هذه الدنيا، فبادر إلى الإسلام عن بينة وإيمان، لا عن خوف ولا عن إذعان؛ وذلك قد يفسر ما روي عنه

صلى الله عليه وسلم

أنه قال: «أسلم الناس وآمن الناس عمرو بن العاص.»

وأسرع عمرو إلى كسب ثقة النبي حتى لقد كان يقول: «ما عدل بي رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في حربه منذ أسلمنا.» ولا عجب أن تعظم ثقة رسول الله بالرجلين وقد عرفهما بمكة، وعرف مكانهما من قومهما، ورأى موقفهما في خصومته حين الغزوات التي كانت بينه وبين قريش وخبر بأسهما، ثم إنه عرف من دهاء عمرو وحزمه ما زاده ثقة به، كان عمرو على إمارة المسلمين في غزاة ذات السلاسل في الشمال من أرض الحجاز، فلما انتصر على القبائل من أعدائه أبى على أصحابه أن يتعقبوهم! وأمر الجند ألا يوقدوا نارا يصطلون عليها، وتوعد المخالف أن يلقيه فيما يوقد، وعاد إلى المدينة، فشكا أصحابه، فسأله رسول الله في الأمر، فكان جوابه: «كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون للعدو مدد.»

عظمت ثقة النبي بعمرو على حداثة عهده بالإسلام، فكان فيمن بعثهم رسلا للملوك والأمراء يدعونهم لدين الله، بعثه إلى عمان على الخليج الفارسي يدعو أميريها جيفرا وعبادا ابني الخلندى للدخول في الإسلام، وكانت عمان في ذلك العهد خاضعة لنفوذ فارس، مع ذلك لم يتردد عمرو في الذهاب إليها وأداء الرسالة التي عهد النبي إليه في أدائها، وقد تحدث إلى عباد فجعل يقنعه بالحجة تارة، ويعده تارة، ويتوعده وأخاه تارة، ويذكر له أن رسول الله يقيم جيفرا إذا أسلم أميرا على عمان، كما أقام باذان من قبله أميرا على اليمن، وعند ذلك يأخذ جيفر الصدقات من أغنياء عمان ليردها على فقرائها، وأقام الأخوان أياما يتشاوران، ورأى جيفر أمر المسلمين يعظم، وخشي ما توعدهم به عمرو أن يوطئ محمد خيله أرضهم، فدخل في الإسلام وبقي أميرا على عمان، وأقام ابن العاص إلى جانبه يبث الدعوة لدين الله ويفقه الناس فيه، وظل كذلك حتى قبض رسول الله وتولى أبو بكر خلافة المسلمين، فلما فشت الردة في العرب عاد عمرو إلى المدينة يتلقى أوامر أبي بكر في مقاومة المرتدين.

هذه المقدرة التي أبداها عمرو في السياسة وفي الحرب جعلته شديد الاعتداد بنفسه، ولوعا بالإمارة، حتى لا يرضى أن يتأمر عليه أحد إلا كارها. لما أرسله النبي إلى شمال الحجاز يقاتل القبائل في ذات السلاسل، خاف هو أن يدهمه العدو بجند عظيم، فاستمد النبي فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين ومنهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: «لا تختلفا». وحان وقت الصلاة وأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فأبى عليه عمرو وقال: إنما جئت مددا لي، قال أبو عبيدة: لا! ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وأجابه عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو! إن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك، قال عمرو: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي، قال أبو عبيدة: فدونك؛ وصلى عمرو بالناس.

Bog aan la aqoon