وكان عمر أشد الناس كراهية للاختلاف، فكان يهدد الذين يختلفون ولو كانوا من أصحاب رسول الله ومن أرفعهم مكانة عند المسلمين. ولا عجب في أن يكون ذلك شأنه، وسترى من بعد أنه يتفق مع تفكيره في جاهليته وفي إسلامه. وليس يرجع ذلك إلى ما زعمه بعضهم من ضيق أفقه؛ فقد كان عمر من أكثر أهل زمانه علما وأوسعهم أفقا، بل لأنه كان يقدم نظام الجماعة على كل اعتبار، ويرى في ثبات هذا النظام واستقراره أقوى كفيل بخير الأفراد وبخير المجموع كله.
كيف يتفق هذا النفور الشديد من الاختلاف في الرأي مع دعوة الإسلام إلى النظر والتدبر والحكم؟ وكيف يمكن لحرية الرأي أن تستقر في بيئة يهدد صاحب السلطان فيها بمعاقبة المختلفين؟
هذا اعتراض أورده بعض المستشرقين بالفعل. ونحن ندفعه هنا، لغير شيء إلا أن تاريخ الفكر الإنساني ينفيه. فكثرة العلماء تذهب الآن إلى أن التجريد المنطقي في الفروض النظرية إنما تسلط على تفكير الإنسانية في العصر الميتافيزيقي حين لم يجد الذهن من المقررات العلمية سندا له في الحياة، فكان هذا التجريد ملجأ نشاطه. وهو قد اتجه بهذا التجريد إلى نظريات لا تثبت عن طريق العلم، وتناول به أمورا يدخل معظمها في دائرة ما سماه هربرت سبنسر «ما لا سبيل إلى معرفته
The unknowable » فلما استقر العلم وقامت الفلسفة الواقعية على أساسه، أصبح هذا التجريد المنطقي ترفا عقليا ضعيف الأثر في حياة العالم الفكرية. فإذا كان رسول الله وكان خلفاؤه الأولون قد نهوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى معرفته، لأن هذا الخوض يثير الخلاف والتنازع، فهم بذلك لم يحرموا حرية الفكر، بل قاوموا طريقة بذاتها من طرق التفكير يصفها العلم اليوم بأنها طريقة الجدل العقيم.
فأما صور التفكير المستندة إلى وقائع الحياة والوجود، والتي يعتبرها العلم اليوم موضع نظره ومجال بحثه، فكانت محل التشاور والعناية في ذلك العهد، وكان ما يتصل منها بشئون الحكم والقضاء مدار الاجتهاد بالرأي، فإن أصاب المجتهد فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه ومن الشيطان.
وسيرى القارئ في صلب الكتاب تفصيلا لبعض ما حرم الاختلاف فيه وحكمة هذا التحريم. وحسبي أن أشير إلى نهي رسول الله عن الخوض في مسألة القدر لنستبين هذه الحكمة. فقد أثارت مسألة القدر في عصور التجريد «الميتافيزيقي» أشد الخلاف وأعظم الجدل، وهي مع ذلك لم تنته ولا يمكن أن تنتهي يوما إلى نتيجة. وهذا دليل على أن النهي عن الخوض فيها كان الحكمة عين الحكمة. وتبلغ هذه الحكمة حد البداهة إذا ذكرنا أن الدين كان يومئذ في إبان نشأته، وأن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يحاربون مبادئه الرئيسية بإثارة ما قد يتصل بها من المسائل الجدلية، لينشروا حول هذه المبادئ جوا من الريبة يصرف الناس عنها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الصدر الأول للإسلام كان عهد جهاد متصل، وأن ما يؤدي إليه الجدل من الاختلاف يجني على هذا الجهاد ويضر بالجهد الذي يبذل لنجاحه، لم يبق للاعتراض الذي أورده بعض المستشرقين أساس، وكان لشدة عمر في النهي عن كل ما يثير الخلاف مسوغ بل موجب.
لا أستطيع، وقد أجملت في هذا التقديم ما تضافر من العوامل لقيام الإمبراطورية الإسلامية، ألا أتحدث عن عمر نفسه. فسيرى القارئ صورته واضحة قوية الأثر في كل فصل من فصول هذا الكتاب. وقد يرى من بروز شخصيته ما يدعو للموازنة بينه وبين أبي بكر. لهذا أسارع قبل الحديث عن عمر فأثبت هنا نص ما ذكرته في تقديم «الصديق أبو بكر» إذا قلت: «قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما. وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العامل كله. ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب؛ فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتمم له، كدين خلافة الصديق لعهد رسول الله وإتمامها له.»
على أنه إذا لم يكن للموازنة بين العهدين موضع وعهد عمر متمم لعهد أبي بكر، فإن الموازنة بين الرجلين يسيرة، ومن شأنها أن تجلو لنا من صورتيهما ما يزيدنا إدراكا لقيمة ما أحرزه كل منهما من الفوز في عهده. ولسنا نجد في هذه الموازنة تصويرا خيرا من تصوير رسول الله حين شاور المسلمين في أسرى بدر، فأشار أبو بكر بقبول الفداء منهم، وأشار عمر بضرب أعناقهم. فقد ضرب رسول الله للمسلمين في كل من الرجلين مثلا؛ فأما أبو بكر فمثله في الملائكة كمثل ميكال ينزل برحمة الله وعفوه على عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون . وأن قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
Bog aan la aqoon