وبعد ساعات وصلا إلى «برج الروم» فترجل أبو فراس ووثب إلى داخل البرج قلقا يساوره اليأس والأمل، فلقيه خالد الشماخ، ومال ليقبل يده، ولكنه جذبها منه وقال: أين سجينتك نجلاء؟ فأجاب مضطربا: في الطبقة الثانية يا سيدي. فانطلق أبو فراس كما ينطلق السهم حتى بلغ غرفتها فأطل فإذا كومة من الثياب ملقاة على الأرض، لا تهزها حركة. فتأمل فإذا فتاة ساجدة وقد طال سجودها، فهتف وهو يرتعد: نجلاء! نجلاء! فرفعت رأسها فأضاء الغرفة نور وجهها الوضاح، ونظرت فإذا أبو فراس: فوثبت من صلاتها في شبه جنون، وهي تضحك وتبكي وتصيح. ثم ألقت بنفسها عليه والدموع تمتزج بالدموع، وبعد لأي قال أبو فراس وهو يلهث: كيف اختطفوك يا نجلاء! لقد اختطفوا روحي وعقلي وقلبي. - إنني لم أجزع لاختطافي كما جزعت للبعد عنك، فلو أنهم كانوا اختطفوك معي لعشنا هنا عيشة هنيئة.
فضحك أبو فراس وهو يقول: إنني لا يختطفني إلا جيش جرار أيتها البلهاء، أرأيت كيف يعمل أعداؤنا على تفريقنا؟ أرأيت كيف ينصبون لنا الحبائل؟ فمالت إليه وهي تقول: من صاحب هذه المكيدة الجديدة؟ أتظنه قرعويه؟ - أنا في حيرة، إن الذي نفذها جندي يدعى غالبا التميمي، ولكني لا أعلم لمن كان يعمل، وقد أدركنا في الطريق فهدا خادم قرعويه ففتشناه فوجدنا معه رقعة من سيده يأمر فيها السجان بإطلاقك. فهل يدل هذا على أنه واضع المكيدة؟ - لا، لو كان صاحب المكيدة ما مد فيها إصبعه هكذا علانية، وإنما أراد بالإسراع إلى تخليصي أن ينال عندي حظوة ومنزلة. قل لي: متى نستريح يا صاحبي من هذه الدسائس؟ - حينما نتزوج. - ومتى نتزوج؟ - حينما لا تبقى قدم رومية فوق أرض عربية.
فتنهدت نجلاء وقالت: لقد أبعدت كثيرا يا سيدي. - لم أبعد، وإن سيفي ليحدثني بأن نصر الله قريب.
وهنا دخل خالد الشماخ حزينا ذليلا، بعد أن علم كيف خدعه اللصوص، وضحكوا من ذقنه، فصاح به أبو فراس: لا تثريب عليك يا صاحبي، فقد خدع الأشرار قبلك من كان يظن أنه أذكى منك. - لقد دخلوا علي يا مولاي في ثياب الجنود فما شككت في صدق قولهم. - لقد كانوا جنودا حقا، وإني أعلم أن إخلاصك للدولة، وجمودك في أداء الخدمة حالا بينك وبين الشك والتردد. وهنا قالت نجلاء: لقد كان خالد فيما وراء قيامه بواجبه كريما شريفا.
وبعد أن استراح أبو فراس قليلا، ركب جواده، وأركب نجلاء فرس فهد، وانطلقا يسابقان الريح حتى طلعا على حلب عند طلوع الشمس، وسرت البشرى في المدينة بعودة نجلاء. وأقبل العظماء والأدباء لتهنئتها، وتوافد على دارها كرائم النساء يعلن السرور، ويتوقعن أن يسمعن حديثا عجبا عن اختطافها العجيب، ووصل الخبر إلى رملة فزاد حزنها، وتأججت في قلبها نار الغيرة من جديد ، وكاد يمسها ما يشبه الجنون.
وكان قرعويه بين القادمين لتهنئة نجلاء، فلما وصل إلى باب الدار تقدم أسامة الخبيث نحوه وقد أراد التشفي منه فقال في أدب وإجلال: لقد عثرنا على فرس لمولاي في الطريق يرعى العشب وليس معه فارس، رأينا بجانبه هذه القلنسوة، ومد بها يده نحو قرعويه، فظهر منها الجانب الذي نقضت خياطته، فنظر إليها قرعويه والحقد والغضب يأكلان قلبه وقال وهو يبتسم ابتسامة الأسد: لعل حادثا وقع للفارس يا أسامة، سننظر في كل هذا فيما بعد.
ولاقت نجلاء قرعويه بترحيب، ورآها أبو فراس فحاكاها في ريائها وهو يغمغم
1
بقول أبي تمام:
النار تأكل بعضها
Bog aan la aqoon