وهنا مدت العجوز يدها إلى جيبها، وأخرجت الرسائل التي سلمها إليها سهم، فاختطفتها نجلاء في غضب يشبه الجنون، وقرأت فإذا استعطاف وشكوى وحنين، وإذا الخط خط حبيبها، وإذا كلمة «يا صوفيا» كتبت في صدر كل رسالة، وكانت قد زورت تزويرا متقنا لم تدركه، وهنا أخذت تئن كما يئن الجريح أقصدته
5
السهام، حتى إذا قضت إربتها من البكاء رفعت رأسها في شمم وكبرياء وقالت: إن أحدا لن يعبث بقلبي ولو كان أبا فراس. وسيرى الناس جميعا أن بنت الخالدي ستستمد من الهزيمة قوة الانتصار، قومي يا سلمى فلن تريني باكية بعد اليوم.
أما أبو فراس فكثرت وساوسه، واختلط عليه الأمر، ولزم داره، وبينما هو يناجي شجونه الضائعة، ويسخط على الدنيا وما فيها من خداع ورياء وختل، إذا رسول سيف الدولة يدخل وبيده رسالة من سيده يخبره فيها باقتراب الروم من مرعش، ويهول له في الأمر، وينبئه بأن الفرصة الآن سانحة للإغارة على حصن برزويه واستنقاذه من أيديهم. ما كاد يتم قراءة الرسالة حتى امتطى جواده وانطلق إلى قصر الحلبة وهو يسابق الريح، وقد شعر في نفسه بشيء من السرور لهذه الدعوة إلى القتال الذي قد ينسيه لواعج الحب، أو يريحه منها إلى الأبد.
الفصل السابع
وصل أبو فراس إلى ميدان القصر في اليوم الثالث من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فرأى زحاما تكاد تلتصق فيه الأجسام، وقد اضطربت آذان الأفق بصهيل الخيل وعجيج الرجال، ورأى جيشا لهاما لا يبلغ الطرف مدى حده، كأنه البحر المائج، وقد لمعت سيوفه، وأشرعت رماحه، واشتاقت فيه النفوس إلى لقاء الموت، ولمح من بعيد سيف الدولة فوق جواده الأشهب، وقد ابتسمت أساريره، وملأه الزهو برجاله وعتاده، فانطلق نحوه حتى إذا بلغه نزل عن فرسه وحياه تحية الملوك وقال: «إنا معك يا بن العم إلى آخر الأرض، ولن نرجع حتى نعلم الدمستق كيف يكون القتال، وحتى نأبى أن نتعلم منه كيف يكون الفرار. سر يا بن العم فإن جيشك غيل
1
متحرك به أسود طال بها الطوى، وحرقها الظمأ إلى دماء الأعداء.»
وهنا صاح الفرسان في حماسة: حيا الله أبا فراس؛ إن جيشا يقوده سيف الدولة ويصول فيه أبو فراس لن يغلب أبدا. وبعد قليل انطلق الجيش كأنه الطود الشامخ يتعثر بالآكام، حتى إذا بلغ حصن برزويه وثب أبو فراس في طليعة الفرسان وسيفه في يده كأنه الشعلة المتوقدة، واحتدمت الحرب، وحمي وطيسها،
2
Bog aan la aqoon