Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Noocyada
وفي هذا الحين وصل إلى الحرج شابان، فصاح كليم بهما: أهلا بالخواجة فاضل والخواجة حنانيا. ثم جلس الشابان بإزاء رفيقيهما، وأخذا في الحديث معهما، وكانا من رفاق كليم وأبناء وطنه، وهما مصيفان في القرية.
وكان حنانيا شابا تدل هيئته على «البساطة»، ولكن في الزوايا خبايا، وكان بلحية ضاربة إلى الشقرة، وهو كثير التنحنح كلما فاه بعبارة. وكان رفيقه فاضل يكثر من ممازحته ومداعبته، وكذلك كليم، وقد كان حنانيا يسر بهذه المداعبة على ما يظهر؛ لأنه لم يكن يستاء منها ولو جرحته أحيانا. وكثيرون - وفي جملتهم المؤلف - كانوا يعتبرون أن هذا الأمر ناشئ بالأكثر عن «طيبة» قلبه.
أما فاضل فقد كان شابا هادئا يحب الجد كما يحب المزاح، وقد كان في عينيه ما يدل على صفاء قلبه، وفي أساليبه وكلامه وسكوته ما يدل على أنه ربي في عائلة ذات نعمة، وكان من المشهور عنه أنه شديد الإخلاص والرغبة في نفع غيره، فلم يكن أحد يسأله شيئا في طاقته ويقعد عنه.
ولما دار الحديث بين الرفاق الأربعة، قال فاضل: إن رفيقنا حنانيا قد ابتاع اليوم كرما، فقال سليم: وكيف ذلك؟ فقال فاضل: جرت عادته أنه كلما رام أن يأكل عنبا يقصد هذه الكروم الممتدة أمامنا من القرية إلى حرج الأرز الصغير المشرف عليها، وكلما شاهد عنقودا جميلا جلس كالثعلب بجانبه وتناول منه أنضج حبوبه وأكبرها، ولا يزال يفعل ذلك حتى يشبع. ففي هذا الصباح بينما كان «يفطر» بهذه الطريقة نظره ناطور الكرم، فصاح به وأسرع إليه، فأجابه صاحبنا بكل برودة قلب: ماذا تريد؟ فقال له الناطور: اخرج من الكرم، فقال له بغضب: ولماذا؟ هل هو كرمك؟ قال: بلا شك، فقال له صاحبنا: أرني الحجة التي بيدك لأتحقق ذلك. ولعمري إن هذه خير الطرق للشبع من العنب بدون دفع بارة واحدة.
فقال كليم: إذا لا يظلم أهل القرية كثيرا ضيوفهم بمعاندتهم والرغبة في التخلص منهم إذا كانوا كلهم على نسق صاحبنا حنانيا.
فقال حنانيا: أنا لست سلا ولا بروتستنت ليستطيعوا طردي، فإنني قاعد هنا على صدورهم إلى أن يحلو لي السفر، ثم فلنترك الآن المزاح. هل بلغكم عزم أهل القرية على التجمهر لإخراج المرضى من قريتهم؟
فقال سليم: وما قولكم في قصدهم هذا؟ ألا ترون فيه شيئا من الحق؟
فأجاب فاضل بحدة: عفوا عفوا، إن لأهل القرية الحق في إبعاد المرضى عنهم، كما أن للمرضى، وخصوصا المصدورين، الحق في اختيار الحدث للإقامة فيها؛ لأن هواءها أجف الأهوية، والأطباء يأمرونهم بأن يسكنوها، ومن الخشونة والهمجية أن يداس حق الضعفاء إرضاء للأقوياء.
فقال سليم: فما الحيلة لإرضاء الفريقين؟ أليس هناك يا ترى طريقة جامعة؟
فقال فاضل: كنت أفكر منذ مدة في هذا الأمر حين سماعي ذلك الخبر، فحللت هذه المشكلة؛ وذلك أن يبنى فوق القرية تحت الأرزات التي هناك «مستشفى للمرضى»، مؤلف من عشرين أو ثلاثين غرفة جامعة لكل الشروط الصحية، على نسق المستشفيات الصحية للمسلولين في أوروبا «سانتوريوم». وحينئذ يجتمع المرضى من تلقاء أنفسهم في هذا المستشفى بدل أن ينتشروا في منازل القرية ويخاصموا الأهالي لاستئجارها.
Bog aan la aqoon