Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Noocyada
ومنهم الحزين أو المنكوب أو التعب من الحياة، أو جريح القلب جرحا أبديا بكارثة من كوارث الدهر الغادر والزمان القاهر، يجيء إليك وهو يجر ذيول آلامه التماسا للقوة في ظلالك، وطلبا لتبريد نفسه المتقدة بشيء من رشاش مائك، ومنهم - وهم المتأخرون المقدمون - جمهور أهل الفكر، يزورونك كزيارة الكاهن الهيكل، ويقفون عندك يستنطقون آثارك ، ويستجلون أسرارك، ويسألونك أخبارك، ويذكرون ويتذكرون . وأنت يا أيها الشيخ الجائر ترد هؤلاء إلى بلادهم جامدين صامتين منقبضين؛ لأنك لا تفتح لهم خبايا أسرارك، وأما جميع أولئك فتردهم فرحين نشيطين معجبين، فلا تحالف الزمان على خياره وخيارك.
لقد طفت في ربوعك وحادثتك وسألتك فلم تجب، وها أنا عائد عنك، فوداعا أيها الشيخ. تذكر في المستقبل رجلا جاءك من أقصى الشرق، وأجال في ضفتيك مزيجا غريبا من روح الشرق والغرب ممزوجا في نفسه، وأفكارا قد تستأهل الإهمال وعدم المبالاة، ولكنها لا تستأهل الضحك والهزء، وإذا هزأت بها فاهزأ، فقد هزأت قبلها بالدهر، وضحكت من الزمان. ولكن قبل أن تهزأ تذكر أنها نتيجة تأثير قومك وأجداد قومك، فنحن تلامذتكم في الصغائر كما نحن تلامذتكم في الكبائر. صدقني أيها الشيخ، غير مجراك واذهب إلى بلادي، فهناك تجري خاملا مجهولا، لا يعكر ماءك ذئاب قديمة أو ذئاب جديدة، ولا يستأسرك الناس ليجعلوك «فرجة» وألعوبة، بل تعيش على هواك معيشة الخمول والسلامة بعيدا عن الناس. هناك تسمع حفيف أشجار الأرز، وتهب عليك ريح الأهرام، وينبت زنبق البر على شاطئيك. إذا مر بك اتفاقا بعض الناس مروا باحتشام. ولا تسلني أيها الشيخ لماذا أتيت منها إلى بلادك إذا كان هذا حال بلادي، فللتقادير أحكام.
مريم وشيشرون
فقالت مريم: فاسمع إذا يا صاحب، تقول إنك لم تتخذ اسمي إلا وسيلة لإظهار مبادئك، وأنا أيضا لم أتخذ إهانتك لي إلا وسيلة لإظهار ما في نفسي، فلا تظن أنني غضبت هذا الغضب تأثرا بإهانتك لي، كلا! - وضحكت - فإن رأيك وآراء جميع الناس لا تهمني. أما قلت لك إنني أعدهم خنازير قذرة؟ فمن يعتد برأي الخنازير؟ وإنما الذي أغضبني في كلامك وأضحكني معا شنك غارة شعواء على أمثالي من الضعفاء والمساكين والساقطين كما تدعوهم، وتجريدهم من التعزية الكبرى والعذر الأعظم الذي لهم في هذه الدنيا، فإن كلامك يوهم أن هؤلاء الضعفاء والمساكين والساقطين إنما سقطوا لضعفهم وانحطاطهم فقط؛ ولذلك توجب نبذهم، بل دوسهم؛ لكي لا يبقى في الهيئة الاجتماعية إلا الأقوياء الأشداء ترقية لها.
فيا صاحبي ، إنك تتحكم في البشر كأنك خالقهم. إنني امرأة ساقطة كما تقول، ولمجرد حكمك بأني ساقطة تقضي بإهلاكي وإفنائي من الوجود دون أن تبحث هل أنا أسقطت نفسي أم غيري أسقطني؟ إنك ترى على شاطئ النهر حمامة جميلة بيضاء تستحم في مياهه، فتغدرها أفعى وتنقض عليها وتفترسها، فتقول: الخطأ في جانب الحمامة لأنها افترست، وهي ضعيفة يجب أن تهلك وتفنى. أما الأفعى فهي قوية، فيجب أن تعيش وتلد أفاعي أخرى لتفترس حمامات أخرى. هذا ما تسمية ترقية يا صاحب؟ وأي عقل سليم وقلب ذكي يسلم معك بتجريد الحمامة المفترسة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم، بينما يتقطع لحمها ويتحطم عظمها تحت أنياب الأفعى؟ أما تعزيتها الكبرى فهي اعتقادها بأن الأفعى غدارة خائنة قاتلة، تستحق لعنة الله والناس، وأن جميع الناس يعتقدونها كذلك، وكلما ازدادت الأفعى سمنا، وانتفخت شحما ولحما، يصبح جوفها المملوء بجثث فرائسها لاعنا ذلك الشحم واللحم الذي اكتسب بالغدر والخيانة والقتل. هذه تعزيتها. أما أنت فتقول - بحسب مبادئك وفلسفتك الراقية - إن الحمامة مستأهلة نصيبها من الغدر والقتل؛ لأنها ضعيفة.
فاضحكي يا أفاعي الأرض من هذه الفلسفة الجديدة، وابكي لها يا حمام. هبك، يا صاحب، خالق الكون، أنسيت أن خليقتك خلقت طبقات طبقات بعضها أضعف من بعض؟ وما لي أتكلم عن الحيوان، فإنني بذلك أقصر حجتي؛ لأن غدر الحيوان وقتله أمران مألوفان، وأنت تعلم أنني ما قصدت بكلامي إلا التمثيل والقياس على الإنسان.
فالبشر يخلقون أقوياء وضعفاء، وليس فيهم ضعيف إلا وترى أضعف منه، ولا قوي إلا وترى أقوى منه: أفاع وحمام، ونعاج وذئاب، فما ذنب النعجة إذا لم تستطع مقاومة الذئب؟ وكيف تطلب مقاومتها له وهي خلقت أضعف منه؟ إذا كان هنا ذنب فالذنب هائل، وهو واقع على خالقها لا عليها؛ لأنه خلقها أضعف من الذئب. هذا هو العذر الأعظم للضعيف يا صاحب، وأنت تريد تجريده من هذا العذر، وجعل عذره هذا ذنبا له.
ثم يا صاحب، ما تعني بالقوة والضعف؟ إن القوة والضعف في الحيوان قوة عضلية وضعف عضلي ، أعني قوة بدنية وضعفا بدنيا. لا تستغرب معرفتي بهذه الأمور، فلدينا - نحن بني إسرائيل - علماء كما لديكم علماء، وقد سمعت كثيرين من علمائنا يردون على علمائكم، ويقبحون مدنيتكم، فالحيوان قوي أو ضعيف بحسب نوعه، وتركيب جسمه، وقوة عضلاته.
أما الإنسان فالقوة البدنية إحدى قواه لا قوته كلها، وقوته الكبرى هي قوة عقله.
بهذه القوة يتحكم في الأرض وكائناتها، ويخضع جميع قواتها، ألا تراه قد استأسر بها الفرس والثور والرياح، وهي أقوى منه؟ أما سمعت أن إسكندر المقدوني غلب الفرس وجيشه أقل عددا من جيوشهم؟ أما قهرنا واستأسرنا قائدكم بومبيوس بجيش قليل، وعددنا نحن بني إسرائيل أضعافه؟ ففي المجتمع البشري قوة فوق القوة البدنية؛ وهي قوة العقل. فاسمع الآن، ما قولك في رجل بليد جاهل لا يعرف من الدنيا شيئا غير جمع المال بالطرق المحللة والمحرمة، وهمه في غش الناس للربح منهم، جسمه كجسم الثور غلاظة وضخامة، وعقله كعقل العصفور، ورجل آخر ضعيف الجسم، ولكنه قوي العقل صحيح الأخلاق، يخترع لقومه آلات حربية يردون بها أعداءهم عن الأسوار، ومطاحن لطحن حبوبهم، ومناسج لنسج أنسجتهم، ومحاريث لحراثة أرضهم؟
Bog aan la aqoon