Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Noocyada
أما التلامذة فينبغي أن يطلبوا الخلاء والهواء النقي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأحسن ما يشتغلون به فيهما مدة الفرصة حراثة الأرض؛ كالبستان أو الحقل، وسقيها من عرق جبينهم، فترد لهم هذا العرق صحة وعافية في العقل والبدن. ولو كان الصيد ملذة طاهرة؛ أي لو لم يكن فيه قتل أرواح، وكان من القبيح أن يعتاد الأولاد من صغر أن يقتلوا ولو حيوانا؛ لأشرنا عليهم بالصيد والقنص. على أننا نفضل الحراثة والزراعة؛ لأنهما فن، وإذا مارس التلميذ هذا الفن اكتسب ميلا إليه. والميل إلى استخراج خيرات الأرض وإجادة ذلك من أهم أسباب الثروة ووسائل العمران.
وإذا لم تكن الفلاحة والزراعة في الخلاء كالقرى في أعالي الجبال ترويضا للجسد وللعقل معا، فلا أحسن من أن يعمل التلميذ بصناعة؛ كالنجارة مثلا، فإن هذه الصناعة التي كان يحبها جان جاك روسو حتى قضى بتعليمها للتلامذة ، والتي كان يحسنها لويس السادس عشر المسكين، الذي تحكى قصته في رواية نهضة الأسد؛ هذه الصناعة مما يروض الجسم والعقل أيضا، فيجب على الطلبة أن يختاروا بينها وبين الزراعة.
هذا فيما يختص بصغار الطلبة، أي الذين لم يبلغوا الدروس العلمية بعد. أما الذين بلغوا الدروس العلمية، فعليهم في أوقات الفرصة ما على معلميهم من الواجب العظيم الذي أشرنا إليه.
وهذا الواجب العظيم هو إنشاء المدارس العامة كما قدمنا، والمقصود بذلك أن نحذو حذو الأمم الحية التي لا تعرف السكون، بل تتحرك دائما، فإن علماء فرنسا ومعلميها والمتقدمين من طلبة مدارسها ينتشرون حين إقفال أبواب المدارس في المدن والقرى والمزارع، يخطبون على العامة وعلى تلامذتهم في المواضيع الصحية والأدبية والعلمية والفلسفية البسيطة، والأمة عامتها وخاصتها تقبل على استماع أقوالهم، والانتفاع بعلمهم، فأي مانع غير التواني وعدم الاكتراث يمنع أساتذة مدارسنا أن يعملوا كذلك في أوقات الفرص المدرسية؟
تصور مدينة شرقية أقفلت مدارسها اليوم، وانتشرت غدا في أسواقها إعلانات من الأساتذة يدعون الشعب فيها إلى استماع خطب بسيطة صغيرة يلقيها كل أستاذ مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، ومتى اجتمع المجتمعون أخذ الأستاذ يلقي على سامعيه كلاما بسيطا في العلم والأدب، وعلم الصحة والجغرافيا والتاريخ، والمبادئ الطبيعية التي يجب اطلاع العامة عليها، والمبادئ الصحية التي من واجبات كل هيئة اجتماعية أن تعلم عامة الشعب إياها. أليس يحضر تلامذة المدارس حينئذ هذه الخطب فيكملوا خارج المدرسة ما بدءوا به في المدرسة؟ ألا يستفيد الشعب من هذه الخطب فوائد لا يستطيع تحصيلها بطريقة غير هذه الطريقة؟ ألا تكون هذه الاجتماعات الأدبية اللطيفة مما يقتل روح الجهل في الأمة، ويدعو إلى الاتحاد والألفة؛ لكثرة اجتماع العناصر المختلفة بعضها مع بعض؟ ألا ترقي هذه الخطب آداب الأمة وذوقها؛ إذ تصرف الأفكار عن المقاهي والحانات إلى طلب مكان أفيد وأسمى؟ ألا تتأثر نفوس أبناء الشعب مما يذكره الخطباء في هذه الاجتماعات من وصف العادات القبيحة، والحث على ترك المسكرات الآفة الكبرى؟ ثم ألا يعتبر العقلاء هذه الخدم الجليلة التي يقوم بها الأساتذة إبان الفرصة المدرسية موازية للخدم الجليلة التي يقومون بها داخل المدرسة؟ وماذا يخسر الأساتذة؟ لا شيء، بل إنهم يربحون اتساع الشهرة، ويكتسبون أميال الناس وحبهم واحترامهم، وفوق ذلك كله يشعرون حينئذ بالكبرياء الساهرة الجميلة التي يشعر بها كل من يصنع خيرا حقيقيا. وهذا خير جزاء لهم.
فإلى هذا الأمر العظيم نوجه أنظار أساتذة المدارس ومعلميها وتلامذتها في الشرق، نوجه أنظارهم إليه ويتنازعنا عاملان: عامل سرور، وعامل كآبة.
أما عامل الكآبة فلأننا نخشى - وا أسفاه - أن يكون كل ما يكتبه الكاتبون ذاهبا أدراج الرياح، فإننا لا نحتاج اليوم إلى من يقول، وإنما نحتاج إلى من يفعل؛ نحتاج إلى أساتذة ومعلمين يعرفون ما يجب عليهم، ويدركون عظم المسئولية التي وضعوها على عواتقهم يوم تسموا معلمين، وجلسوا على كرسي سقراط وأفلاطون وأرسطو، فيقومون إلى العمل بواجباتهم.
وأما عامل السرور فلأننا نرجع بالفكر إلى أوقات بعيدة تختلج لها القلوب في الصدور. سلام يا أوقات التلمذة الجميلة، ما كان أحلاك وأسعد أيامك! يا ربيع الحياة المفروشة طريقه وردا وريحانا! يا عمر الزهر والطهارة وعدم الاكتراث! سقيا لك من جنة لا يراها الإنسان إلا بعد أن يجتازها! يا طيرا ذا ألف لون ولون يطير في فضاء هذا العالم بسرعة الحلم، ولا نراه إلا بعد أن يفلت منا! يا أحلام الصبا الوردية وآماله الذهبية! يا جو الكمال التصوري الذي ترفرف فيه أجنحتنا الرطبة الرخوة في الصغر، حتى إذا أتت حوادث الحياة الحقيقية في الكبر كسرتها، واجتذبتنا إلى الأرض بالرغم عنا.
هذا ما يحلو حين التفكير بالفرص المدرسية، ولكنه يحلو لمن كانوا تلامذة، فأين حلاوته لمن كانوا معلمين؟
يا لك من فن شريف عظيم يا فن المعرفة والحكمة! بيدك يا فن التعليم زمام الأمم ومستقبل الشعوب. أنت القوة الحقيقية، والسياسة الحقيقية. صرفنا فيك أوقاتا لا نذكرها إلا ويصعد الدمع إلى عيوننا؛ ذلك لأننا نذكر رفيقا ساعدنا فيك، وصرف فيك أوقاته وقواه معنا، فنحن نبعث له بالتحية في هذا المقام وإن خرجنا عن موضوعنا. سلام يا روح ذلك الرفيق العزيز. نكتفي الآن بهذا القول ونترك الدمع يكمل تحيتنا.
Bog aan la aqoon