Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Noocyada
فبعد ما تقدم، لا نرى للروايات التاريخية وظيفة سامية بين الروايات، إلا إذا كان المقصود بها مجموعة قصص وفكاهات لتسلية الخاطر وترويح النفس في ساعات الفراغ. وظاهر بنفسه بعد هذا أن الوظيفة العليا بين أنواع الروايات هي للروايات الاجتماعية الفلسفية .
وقد ذكرنا كل ما تقدم لغرض لم نذكره حتى الآن، وهو الدفاع عن الروايات الاجتماعية الفلسفية، فإن بعض الكتاب رأى أن هذه الروايات روايات كمالية، لا نحتاج إليها في هذا العصر، بل نحتاج إلى روايات عملية. وربما وجد قوله هذا موافقين ومصدقين له دون أن ينظروا في لباب هذا الموضوع؛ لأن الناس اعتادوا موافقة من يعتقدون فيه أصالة الرأي وصدق النظر. وقد تقدم إثبات أن الروايات غير الاجتماعية هي الروايات الكمالية.
وقد يستغرب القارئ اهتمامنا بهذا الموضوع الصغير وتخصيص بضع صفحات به، ولكن الكاتب الذي تتبع آراء الشرقيين ومطبوعاتهم بانتباه وإمعان لا يعده موضوعا صغيرا، بل كبيرا، وربما يراه أكبر موضوع إذا نظر فيما يلي:
أن كثرة الكتاب في الشرق، وتعدد الآراء، وتنوع اللغات والتربيات قد جمعت في كتبه ومجلاته وجرائده جميع الآراء الفلسفية ومذاهب الأدب الكتابي. قد اجتمعت متناقضة متضاربة، وأصبحت خليطا من جميع المذاهب في الكرة الأرضية، فترى فيها مذاهب سبنسر وكونت وداروين وماركس والقديس توما وأفلاطون وأرسطو وأبيقور الكلبي، كما يسميه جمال الدين الأفغاني، وفلاسفة الإسكندرية، وشوبنهور ونيتشه وقنت وزولا وهيغو، ومذاهب القرآن والتلمود والتوراة والإنجيل والفيدا، كلها - أي كل هذه المذاهب المختلفة - تراها فيه متجاورة مشتبكة اشتباك الأسل. وليس هذا بالأمر الغريب العجيب، فإن بابل وجدت قبل اليوم على ما جاء في التوراة.
وإنما الغريب العجيب أمران؛ الأول: اجتماع المتناقضات من هذه المذاهب في حيز واحد دون أن يفطن صاحب هذا الحيز لها، والثاني: تسفيه صاحب أحد هذه المذاهب لمذهب آخر منها من وجه مذهبه، وبطرق مذهبه، بدل أن يسفهه من الوجه الخاص بهذا المذهب. وغني عن البيان أننا نتكلم هنا عن المذاهب الكتابية والفلسفية والأدبية، لا المذاهب الدينية، فترى مثلا بعضهم يكتب يوما كأنه على مبادئ كونت؛ صاحب الفلسفة الوضعية السائد روحها اليوم في أوروبا وأميركا، ويوما تراه يكتب كأنه على مبادئ قنت وشوبنهور الأيدياليستية. تراه يوما ينهج منهج زولا في كتاباته الناتوراليستية (تقليد الطبيعة)، ويوما ينهج منهج فيكتور هيغو في كتابته الرومانتيكية الأيدياليستية. وقد قرأنا يوما في جريدة يومية مصرية كلاما عن الوطنية، قالت فيه: إن الوطنية أثر من آثار الهمجية القديمة، مع أن الرصيفة تدافع عادة أشد دفاع عن جميع المبادئ التي هي عماد الوطنية ودعامتها. وعلة هذا الاختلاط والاختباط عدم وضوح المبادئ بعد لأبناء الشرق للاجتماع حولها أحزابا أحزابا، كل حزب يعرف أصل مبدئه وفروعه، ويجعل خطته الدفاع عنه وعنها لموافقتها مزاجه وأخلاقه وآراءه. وإليك مثالا لهذا الاختلاط والجهل بأصول المبادئ:
قال بعض الكتاب إن الروايات الاجتماعية والفلسفية روايات كمالية، والأهم منها الروايات العملية. وبعد هذا القول قال: إن أحوالنا تحتاج إلى إصلاح، وخير سبل الإصلاح تقبيح الرذائل الشائعة؛ كالكذب والخداع والمجاملة والمقامرة والمسكر والبورصة، وغيرها من الرذائل والمنكرات التي نئن تحت أعبائها.
فالذي وقف على أصول المبادئ الفلسفية والأدب الكتابي يستغرب هذا القول؛ لأنه يعلم أن الأدب الكتابي في الفلسفة نوعان: أيدياليست (مثالي)، ورياليست (واقعي)؛ فالأدب الأيدياليستي مشتق من قوى النفس والعقل، والأدب الرياليستي أو الناتوراليستي مشتق من الطبيعة. الأول يعتمد في التأثير والإصلاح على قوى نفس الإنسان، ويقدم تأثيرها على كل تأثير، والثاني يعتمد على الطبيعة وقواتها وتقليدها. الأول يقول: صوروا ما هو أسمى من الطبيعة لرفع النفوس به، والثاني يقول: إن ما هو أسمى من الطبيعة خيالي وهمي أو كمالي، وحسبنا الطبيعة وتقليدها وتصويرها؛ لأن فوائدها عملية.
فإذا عدت الآن إلى الاعتراض الذي تقدم، وجدت أن المعترض يقول إن المذهب الأيدياليستي أمر كمالي، وهو اعتراض جائز مثلا لمن كان رياليستيا؛ كالفيلسوف نيتشه الذي أدمى الأيدياليست نقدا وتهكما، ولكن متى سفه المعترض المذهب الأيدياليستي ذلك التسفيه، ثم عاد فقال ألفوا في اجتناب الكذب والخداع وما أشبههما من النقائص الاجتماعية، فإنه يخلط بين المبادئ دون أن يشعر؛ ذلك لأن توقع الإصلاح من محاربة الكذب والخداع وما أشبههما هو من مذهب الأيدياليست. ومذهب الرياليست يتساهل أحيانا مع الكذب والخداع، وقد قال نيتشه إنهما حق للضعيف ومن ملازمات العمران. فالنتيجة التي تخرج من هذا هي أن المعترض يسفه من جهة مذهب الأيدياليست؛ لأنه خيالي وهمي في رأيه، ومن جهة أخرى يدعو إلى إصلاح البشر به. وهو منتهى السذاجة والجهل بالأصول.
وليس غرضنا في هذا الفصل شرح مذهب الأيدياليستيين والرياليستيين، وإظهار آثارهما في المجتمع البشري، ومبلغ تأثير كل منهما في إصلاح الأرض؛ فإن ذلك بحث فلسفي طويل، متشعب الطرق، كثير الفروع. وسنغتنم أول فرصة لإبداء رأينا في هذين المذهبين. إنما غرضنا هنا أن نوجه الأنظار إلى وجوب فصل المبادئ في الشرق وترتيبها، ووضع كل واحد منها في مرتبته وبابه؛ تسهيلا للنظر فيها، واختيار أفضلها لنا، فضلا عن أن الخلط بينها دليل على الجهل بها، والجهل بها دليل على انحطاط العلم عندنا وكونه لا يزال في طفوليته.
بين الفصحى والعامية
Bog aan la aqoon