2
يشير راي كيرزويل في كتابه «عصر الآلات الروحية» إلى ما يسمى بحوسبة تدمير المعلومات. وفيها يحاول المهندسون والمبرمجون محاكاة عملية يقوم بها العقل البشري بشكل تلقائي، وتعتمد - باختصار - على محاولة مساعدة الحاسب على اختيار المعلومات ذات الأهمية وتدمير غيرها من المعلومات؛ لأن «هناك الكثير من المعلومات الفجة في العالم التي لا تستحق أن نستمر في حفظها كلها.»
أمر طبيعي تماما، لا يمكنك أن تتعامل مع كم المعلومات التي تقابلها خلال اليوم باعتبار أنها على نفس القدر من الأهمية، لا بد أن يصنفها عقلك؛ يحتفظ بالضروري منها، ويتخلى عن غير الضروري. لكن كيف يصنفها؟ كيف يحدد العقل أي المعلومات هو المهم وأيها غير مهم؟ هل هو أمر فطري يشترك فيه الناس جميعا؟ أم أن هذا التصنيف ذاته هو عملية تعتمد على نموذج معرفي مكتسب غير محايد تتم فلترة الواقع من خلاله؟ نميل اليوم إلى إعطاء أهمية كبيرة لدور النموذج المعرفي الذي يتبناه الإنسان في تحديد رؤيته للعالم، دون أن يعني هذا بالضرورة عدم وجود بعض القوانين أو القواعد الفطرية كذلك.
3
في كتابه «بنية الثورات العلمية» يشير توماس كون إلى مفهوم البرادايم أو النموذج المعرفي. ومن خلاله يقدم فلسفة مختلفة للتطور العلمي، فبدلا من الصورة التقليدية التي كانت ترى أن العلم يتطور بشكل خطي ومستمر، أوضح كون أن فكرة الحقيقة العلمية في لحظة بعينها، لا يمكن تأسيسها على معايير موضوعية فقط؛ لأنها تتأثر أيضا بالمجتمع العلمي الذي يتم تداولها فيه. يتعرض كون في هذا السياق إلى فكرة «النموذج المعرفي»، وهو يرى أن نموذجا معرفيا ما يسيطر في كل مرحلة، يساعد على رؤية الواقع وتفسيره، ويستمر هذا النموذج قائما ما دام قادرا على تفسير الواقع بشكل مرض. لكن مع تغير الزمن، تبدأ في الظهور مجموعة من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها من خلال النموذج القائم، وتكون هذه هي بداية انحلاله، وبروز نموذج جديد أكثر تطورا وأكثر دقة وشمولا. من الأمثلة البارزة التي يوردها هنا رؤية الكون عند بطليموس الذي كان يرى أن الأرض هي مركز الكون، ثم عند كوبرنيكوس الذي رأى أن الشمس هي مركز الكون، ثم نيوتن ثم أينشتاين.
لكن لا يعني هذا أن المعرفة العلمية هي مجرد وجهات نظر لا تتميز على غيرها، فهناك دائما مواصفات للنموذج المعرفي الناجح، تتمثل في قدرته على تقديم تفسير للعالم يمكن اختباره، ويستطيع القيام بتنبؤات دقيقة. المقصود هنا هو توضيح كيف أنه حتى في إطار المعرفة العلمية - التي تشدد على الدقة وعلى الضبط - لا يمكن لنموذج بعينه أن يدعي الصحة المطلقة، أو أن يفترض حصانة دائمة؟ هناك دائما مساحة للنقاش ووجهات النظر والخلافات. هناك مساحة لنظرية جديدة كي تبرز، تختلف عن بعض جوانب الفهم السابق عليها وربما تناقضها. والتاريخ العلمي مليء بذكر العلماء الذين لم يتفهموا أو رفضوا نظريات جديدة أفضل لأنها تخالف الفهم الذي اعتادوه للعالم، دون أن يوقف هذا الرفض الجديد من البروز. في العلم تبقى النظرية ناجحة فقط ما دامت صامدة وقادرة على تبرير وجودها باعتبارها الأكثر قدرة على التفسير والتنبؤ.
4
التأكيد على الاختلافات والتفاوتات في النظر للعالم لا يعني أن الرؤى كلها متساوية في القيمة، أو أن أيا منا يستطيع أن يدافع عن أفكاره فقط بعبارات محفوظة من نوعية «هذا رأيي»، أو أن يكتفي مثلا بأن يتذرع بأنه يدافع عن هوية متخيلة أيا كانت. المقصود على العكس هو التأكيد على قيمة الحوار، وقيمة التساؤل، وأهمية مراجعة الذات، وتفهم التنوعات، وقبول الآخر، والتسامح مع المختلفين؛ لأن الحقيقة قد تكون مع الآخر، أو قد يمتلك كلانا أجزاء منها، دون أن يحيط بها.
لكن المفارقة أنه يحدث أن يستخدم البعض فكرة النسبية الثقافية، أو تنوع وجهات النظر نفسها في الدفاع عن تعصبات منغلقة لا تتقبل الآخرين. وهي المفارقة التي يشير لها «توماس هيلاند إريكسن» في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية منذ عامين تقريبا تحت عنوان: «مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية». وفي هذا الكتاب يقول إريكسن: «من المضحكات المبكيات أن نظريات «النسبية الثقافية» في علم الأنثروبولوجي، التي وضعت أساسا لمناهضة «الشوفينية» والعصبية «القومية»؛ كان لها تأثير مضاد، ومعاكس تماما للهدف الذي وضعت من أجله.»
5
Bog aan la aqoon