تتوقف قليلا بعد قراءتك لفقرة من كتاب ما، لتسترجع ما قرأته، تتأكد من فهمك وإلمامك بما قيل، قد تتساءل عن مدى اتفاقك أو اختلافك مع ما هو مكتوب، قد تناقش رؤية المؤلف، وتستعرض آراء بديلة لتقارن بينها وبين الفكرة المعروضة، قد تتفق فقط مع بعض ما يقال، وتختلف مع البعض الآخر، قد تسجل هذه الأفكار التي راودتك لتعود لها بعد ذلك كي تختبرها. هذه الدقائق التي تتوقف فيها بين الفقرة والفقرة لتحاور نفسك، وتحاور الكتاب الذي تقرؤه، ليست ترفا، إنها أهم ما في عملية القراءة، هي ما يمكنك من فهم ما تقرؤه، ومن وضعه في سياق أوسع من قراءاتك المختلفة في الموضوع نفسه أو موضوعات مختلفة. دون هذه الدقائق تتحول القراءة إلى عملية تلق سلبي، تحفظ فيه ما هو مكتوب ثم تعيد إرساله مرة أخرى دون فهم أو مراجعة، أو حتى إعادة صياغة. تماما كالصورة التقليدية التي تنتجها بعض أنظمتنا التعليمية لطالب يذرع الغرفة لمرات مرددا عبارات مكتوبة في كتاب أمامه، بغرض حفظها.
5
أي حوار، سواء أكان حوارا في الشارع أم في العمل أم في برنامج رأي أم حوارا أدبيا، هو حالة من التفاعل بين أطراف مختلفة، يؤثر كل منها في الآخر. الحوار الصحي يظهر أفضل وأرقى ما فينا، لكن إن بدأ المتحاورون - كلهم أو بعضهم - الحوار وهم محصنون بالخوف، أو الجمود ضد التأثر بالآراء الأخرى، محصنون باليقين ضد أي إمكانية للشك في صحة مواقفهم، يتحول حينئذ الحوار إلى مسخ.
الحوار ليس مجرد كلمات يتبادلها طرفان أو أكثر، إنه حالة تطرح فيها أفكار وخلفيات مختلفة نفسها، لتتفاعل معا. المجتمع الذي يرفض الحوار بمفهومه الأوسع هو مجتمع يتحيز للثبات؛ لأن الحوار الحقيقي حركة مستمرة. لا يمكن التخلي عن هذا التنوع من الآراء لصالح رؤية واحدة أيا كانت. حتى وأنت جالس في الغرفة منفردا، تفكر أو تتأمل أو تقرأ، تحتاج هذا التنوع، هذا الجدل في داخلك، تحتاج إلى هذه الأسئلة، إلى تمثل الآراء المختلفة والتحاور معها؛ كي تكون هذه العزلة مبدعة.
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
1
ربما تكون قد شاهدت فيلم راشمون
Rashomon-1950
للمخرج الياباني كوروساوا، والذي يعرض أربع رؤى متباينة لحدث واحد، هو مقتل الساموراي «كانازاوا تاكيهيكو». تعرض كل شخصية زاوية من الحدث تعبر عن نظرتها للحقيقة، ومع توالي الرؤى تفاجأ - كمشاهد - بمقدار التناقض بينها، ومقدار التشويه الذي حدث في كل زاوية نظر.
هذه الانتقائية نمارسها في حياتنا بشكل مستمر: ونحن في بيوتنا، ونحن نسير في الشارع، ونحن نتعامل مع الآخرين. قد نعرف شخصا ما لفترة طويلة، لكننا نحتار ونتبلبل مثلا إن سألنا أحدهم عن تفصيلة ما تخصه. والوعي بهذه الفكرة من النقاط المهمة في تقنية كثير من الأعمال الفنية والأدبية، ومنها القصة والرواية على سبيل المثال. على الروائي في كل جزء من روايته أن يختار زاوية النظر التي سينقل بها الحدث الذي يريد نقله، هل سيستخدم الراوي العليم أم الراوي المشارك؟ ومن أي زاوية سينقل المشهد الذي يريد وصفه؟ الوعي الحديث يدرك أن الراوي لا ينقل الحقيقة بالضرورة كما حدثت، لكنه ينقلها كما رآها أو كما يريدنا أن نسمعها.
Bog aan la aqoon