من شأن الشيء الذي هو خير كغاية في ذاته أن يحتفظ على كل حال ببعض قيمته حين يعزل عزلا تاما. إنه سيحتفظ بكل قيمته كغاية، أما الشيء الذي هو خير كوسيلة فحسب فسوف يفقد كل قيمته بالعزل. إن ذلك الذي هو خير كغاية سيبقى ذا قيمة حتى حين تسلب منه كل نتائجه ولا يترك له إلا وجوده المحض؛ ومن ثم فنحن لن يسعنا أن نكتشف ما إذا كنا حقا نشعر تجاه شيء ما بأنه «خير كغاية» ما لم نتمكن من تصوره في انعزال تام، ونتأكد أنه يظل ذا قيمة وهو معزول. إن الخبز خير، فهل الخبز خير بوصفه غاية أم بوصفه وسيلة؟ تصور رغيفا موجودا في كوكب غير مأهول وغير قابل للسكنى، فهل يبدو كأنه يفقد قيمته؟ إن مثال الرغيف مغال في السهولة بعض الشيء، فلننظر في العالم الفيزيائي، إنه يبدو لمعظم الناس خيرا بدرجة هائلة، ذلك أنهم يشعرون نحو الطبيعة باستجابة انفعالية عنيفة تضع على شفاههم النعت «خير»
good ، ولكن هب أن العالم الفيزيائي لا يمت لعقل بصلة، وأنه ليس من شأنه أبدا أن يثير استجابة انفعالية، وليس من شأن أي عقل أن يتأثر به، وأنه ليس له عقل خاص به، فهل يظل هذا العالم يبدو خيرا؟ افترض أيضا أن هناك كوكبين أحدهما خلو من الحياة وسيظل خلوا أبدا، والآخر توجد به شظية من بروتوبلازم حي بالكاد ولن ينمو أبدا ولن يصير واعيا على الإطلاق، فهل يسعنا أن نقول بحق إننا نحس أن أحدهما خير من الآخر؟ هل الحياة نفسها خير كغاية؟ إن ما يجعل الحكم القاطع أمرا صعبا هو حقيقة أن المرء لا يمكنه أن يتصور أي شيء دون أن يشعر نحوه بشيء ما؛ فتصورات المرء نفسها تثير حالات ذهنية وبذلك تكتسب قيمة كوسيلة، فلنسأل أنفسنا بصراحة: هل يمكن لأي شيء ليس له عقل وليس يؤثر في أي عقل أن تكون له قيمة؟ كلا بالتأكيد، بينما يمكن لأي شيء له عقل أن تكون له قيمة باطنة، ويمكن لأي شيء يؤثر في عقل ما أن يصبح ذا قيمة بوصفه وسيلة، من حيث إن الحالة الذهنية التي ينتجها قد تكون لها قيمة في ذاتها، ولتعزل (في تصورك) ذلك الذهن؛ اعزل الحالة الذهنية لإنسان في حالة حب، أو إنسان مستغرق في التأمل. إنه لا يبدو أنه يفقد كل قيمته، «لاحظ» أنني لا أقول إن قيمته لا تنقص؛ فمن الواضح أنه يفقد قيمته كوسيلة لإنتاج حالات ذهنية خيرة لدى الآخرين، غير أن هناك قيمة معينة تدوم بالفعل، إنها قيمة باطنة.
اعمر الكوكب الموحش بعقل إنساني واحد، يصبح كل جزء من هذا الكوكب ذا قيمة كامنة كوسيلة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ذلك الشيء الذي هو خير كعادته؛ أعني حالة ذهنية خيرة، إن الحالة الذهنية لشخص في حالة حب أو مستغرق في التأمل تكفي في ذاتها؛ فنحن لا نعود نتساءل «أي غرض نافع تقدمه هذه الحالة، أي شخص تفيده، وكيف؟» بل نقول بمباشرة واقتناع: «هذا خير.»
عندما نطالب بتبرير ما نراه من أن أي شيء، عدا حالة ذهنية، هو خير، فإننا إذ نشعر أن هذا الشيء هو مجرد وسيلة، نفعل عين الصواب حين نتلمس آثاره الخيرة، ويكون تبريرنا النهائي دائما هو أنه يؤدي إلى حالات ذهنية، هكذا عندما نسأل لماذا ننعت سمادا منثورا بأنه خير، فقد نبين (إن أمكننا أن نجد مستمعا!) أن السماد وسيلة إلى المحصولات الجيدة، والمحصولات الجيدة وسيلة للغذاء، والغذاء وسيلة إلى الحياة، والحياة شرط ضروري لحالات ذهنية خيرة، وأبعد من ذلكم لا يمكن أن نمضي، وعندما نسأل لماذا نعتقد أن حالة ذهنية معينة هي خير، ولتكن حالة التأمل الإستطيقي مثلا، فإن حسبنا أن نجيب بأن خيريتها بالنسبة لنا هي أمر واضح بذاته
self-evident ، فبعض الحالات الذهنية تبدو خيرة بمعزل عن نتائجها، ولا شيء عدا هذه الحالات يبدو خيرا بهذه الطريقة، نخلص من ذلك إلى أن الحالات الذهنية الخيرة هي وحدها خير كغاية في ذاتها.
علينا لكي نبرر أي نشاط إنساني تبريرا أخلاقيا أن نتساءل: «هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة؟» أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريا وإمباثيا
empathic ؛
9
فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة وقوة، إنه أكثرها مباشرة لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرا في الذهن، ولا شيء أكثر قوة وفعالية؛ لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازا أو شدة من حالة التأمل الإستطيقي، فإذا كان الأمر كذلك فإن التماس أي تبرير أخلاقي آخر للفن، أو البحث في الفن عن وسيلة إلى شيء لا يرقى إلى أن يكون حالة ذهنية خيرة، هو خطل لا يقع فيه إلا أحمق أو رجل من رجال العبقرية.
لقد وقع في هذا الخطل كثير من الحمقى، وروج له واحد من عباقرة الرجال ترويجا قبيحا، فلم يحدث قط أن وضع أحد العربة بشكل معيق أمام الحصان مثلما فعل تولستوي عندما أعلن أن ما يبرر الفن هو قدرته على تعزيز الأفعال الخيرة، كما لو كانت الأفعال غايات في ذاتها! إن فعل الجري ليس فيه فضيلة ولا رذيلة، ولكن أن تجري بأنباء سارة هو فعل جدير بالثناء، وأن تجري فرارا بكيس إحدى العجائز هو فعل غير جدير بذلك. كذلك فعل الصياح، فليس في الصياح فضيلة، ولكن أن تصيح لكي تصدع بالحق والعدل هو فعل خير، أما أن تصم آذان الخلق بالدجل والهراء فهو فعل لعين. إن الغاية المنشودة هي دائما ما يضفي على الفعل القيمة، ويجب أن تكون غاية جميع الأفعال الخيرة في النهاية هي أن تخلق أو تحفز أو تمكن لحالات ذهنية خيرة؛ ومن ثم فإن حث الناس على الأفعال الخيرة بواسطة لوحات إرشادية هو حرفة جديرة بالاحترام ووسيلة غير مباشرة إلى الخير. أما الأعمال الفنية فهي وسيلة مباشرة إلى الخير وأكثر مباشرة من أي شيء آخر يمكن للكائن الإنساني أن يمارسه، في هذه الحقيقة على وجه التحديد تكمن الأهمية الهائلة للفن: فليس ثمة وسيلة إلى الخير أكثر مباشرة من الفن.
Bog aan la aqoon